لحظاتٌ مصيريّة لنا، ولإسرائيل وللولايات المتحدة

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

هذه الحرب ليست كأيّ حرب، والمعارك التي تجري ليست كأيّ معارك، لا أقصد حجم الحرب والمعارك، ولا حجم الدمار  والخسائر على الجانبين، مع أنّ الدمار والخسائر في الجانب الفلسطيني هائلة بكلّ المقاييس، والخسارات على الجانب الإسرائيلي مهولة وغير مسبوقة، إلّا أنّ المقصود هو أنّ هذه الحرب، وهذه المعارك هي التي ستحدّد في تبعاتها ونتائجها مصير القضية الفلسطينية، ومصير المشروع الصهيوني، ومصير الهيمنة الأميركية و»الغربية» في هذا الإقليم، سواءً على المدى المباشر أو المتوسط أو حتى البعيد، مع فارق اختلاف التأثيرات والتبعات في هذه المديات الثلاثة.
لا نستطيع أن نبدأ بتبيان جوهر الطابع المصيري لهذه الحرب دون أن نحاول معرفة درجة الدقّة التي شملتها عملية التخطيط للهجوم الذي شنّته حركة حماس يوم السابع من تشرين الأول من ثلاثة جوانب على الأقلّ:
الجانب الأوّل، وهو حساب القدرة على مواصلة المشاغلة النشطة للقوات الإسرائيلية في «منطقة الغلاف»، وخلف خطوطه، وذلك للأهمية الكبيرة لمثل هذا الجانب من الحسابات، ومردوده العسكري والسياسي والنفسي، والذي له اعتبارات استثنائية وخاصة، بما في ذلك قصف هذه القوات، واستمرار إيصال القصف إلى مدن وتجمُّعات كبيرة وهامّة وبعيدة.
الجانب الثاني، هو الحساب الذي يتعلّق بالحرب البرية، وذلك من حيث إمكانية أن تكون إسرائيل قد حسمت بشأنها، وبالتالي خطط مجابهة هذه الحرب سواءً كانت شاملة، أو قضماً متدرّجاً، أو عزل المناطق عن بعضها البعض، بعد تقسيمها إلى مربّعات معزولةٍ عن بعضها البعض.
والحساب الثالث، هو حساب ما يُطلق عليه «وحدة الساحات»، وفيما إذا كانت حركة حماس قد ضمنت تدخّل هذه «الساحات» عند درجة معينة من تطور هذه الحرب، وفيما إذا تأكّدت من أنّ هذا التدخّل سيكون بالطريقة المناسبة، وبالتوقيت المناسب، وبالقدر المطلوب والمناسب وحتى يكون هذا التدخل فاعلا وقادرا على إحداث الفرق المطلوب والمناسب في النتائج المتوقّعة.
من دون الحسابات الدقيقة لهذه الجوانب الرئيسية، وفرعيّاتها، وآليات العمل فيها، سنكون أمام مغامرة كبيرة، قد لا نتمكّن من استغلال الانتصار الكبير الذي حقّقته المقاومة حتى الآن، وقد لا نتمكّن من منع إسرائيل من «اختطاف» «انتصار» تُحاول من خلاله ترميم الفشل المدوّي، والإخفاق الأكبر الذي حلّ بها منذ قيام دولة الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية.
المخطّط الإسرائيلي الذي تحاول دولة الاحتلال أن تفرضه من وراء هذه الحرب التي أعلنتها مباشرة بعد الصدمة الأولى هو في تحويل الحرب إلى مسألة وجودية من زوايا ثلاث، أيضاً.
الأولى، هي الاجتثاث، والاستئصال والتصفية الكلية للقوة العسكرية لكافة الفصائل المُقاوِمَة في القطاع، مهما كان الثمن، وبصرف النظر عن حجم القوّة المطلوبة، ودون أيّ حسابات لميزان التدمير، وميزان الخسائر البشرية عند الطرف الفلسطيني، خصوصاً وأنّها ضمنت لنفسها دعماً أميركياً لم يسبق له مثيل، وفاق كلّ التوقّعات والتصوّرات، حتى بعد «مجزرة المعمداني»، ولم تكترث بعدها، بل وذهبت إلى ما هو أبعد من الصفاقة والنذالة في تحميل المقاومة المسؤولية عن المجزرة.
الثانية، هي المغامرة بحربٍ إقليمية طاحنة، بدعمٍ مباشر ومُعلن من الولايات المتحدة، بما في ذلك «استعدادها» كما قالت للمشاركة المباشرة في ردع أيّ محاولات لتوسيع الحرب.
الثالثة، ربط الزاويتين الثانية والأولى باستراتيجية الحسم التي تتبنّاها حكومة «اليمين» العنصري في إسرائيل، واعتبار هذه الحرب في أحد أهمّ جوانبها، «الفرصة» للإجهاز على القضية الفلسطينية من خلال ضغوطها العسكرية المحمومة لتهجيرٍ جماعي إلى مصر، وإلى تهجيرٍ جماعي داخل القطاع في حالة فشل التهجير إلى سيناء، وبحيث يتمّ قتل أكبر عددٍ ممكن من المدنيين، سواءً من أجل الانتقام، والاستجابة إلى دعوات الذبح للفلسطينيين التي يطلقها القاصي والداني في دولة الاحتلال، وخصوصاً من غلاة التطرُّف والفاشية، ومن أجل أن تشكّل هذه المذابح والمجازر «ضغطاً» مباشراً على قدرة المقاومة على الصمود، وعلى الاستعداد للجولات القادمة من هذه الحرب، بل ووضعت إسرائيل بصورةٍ معلنة أنّ هذه الحرب ستؤدّي إلى قيام واقعٍ جديد في كامل الإقليم، وفرض «شرق أوسط جديد» ليس فيه للشعب الفلسطيني من حقوق أو كيانية أو هوية وطنية، وقد لا يُسمح بوجوده على أرضه إذا ما استطاعت الولايات المتحدة وإسرائيل أن تربح هذه الحرب، وأن تنتصر بصورةٍ حاسمة.
وصلنا إلى مفصلٍ ليس فيه حلول وسطيّة، فإمّا أن تمتدّ الحرب وتتّسع خلال الأيام القليلة القادمة، وبذلك سيدخل الإقليم في مرحلةٍ ستحدد في نتائجها معالم إقليم جديد لا يشبه الإقليم الحالي إلّا في بعض هياكله الشكليّة، وصولاً إلى انقلابات كبيرة من مشهديّته السياسية، وفي الخرائط الجيوسياسية فيه، بما في ذلك هزيمة إسرائيلية أكبر وأخطر وأعمق من الهزيمة التي مُني بها في السابع من تشرين الأوّل.
وإمّا أن تتمكّن إسرائيل من الاستفراد بالقطاع، وتواصل تدميره بكلّ قوّتها، وأن تدخل الحرب البرّية بعد أن تتمكّن من إنهاك المقاومة، سواءً بسبب شدّة القصف، أو قتل عشرات آلاف المدنيين.
وقد تبادر إسرائيل في هذه الحالة إلى ضرب «حزب الله» في حربٍ استباقية على الجبهة الشمالية، وقد تصل الأمور إلى توجيه ضربةٍ قاصمة إلى سورية، ولن يكون مستبعداً أبداً في هذه الحالة أن تتعاون الولايات المتحدة بصورةٍ مباشرة في هذه الضربات لكي تُتوّج هذه الحرب بضرب إيران، أو تدمير مفاعلاتها النووية على أقلّ تقدير.
لا أرى حلولاً وسطاً هنا لأنّ بقاء «حماس» قويّة وقادرة، ومواصلة ضربها للمدن والتجمُّعات العسكرية الإسرائيلية، واستمرار تهديدها لكل بقعة حتى الجليل الأعلى، ومنع إسرائيل من الدخول في حربٍ برّية هو بمثابة هزيمة كبرى لإسرائيل قد تصل إلى درجة الانهيارات الكبيرة في نظامها السياسي كلّه، وفي اقتصادها، وتحوّل الهجرة منها إلى هجرة جماعية، أو «الترانسفير» المعاكس.
وإذا ما استطاعت قوى المقاومة، وربّما سورية وإيران أن تزجّ بقدراتها في الحرب حتى ولو بادرت الولايات المتحدة وإسرائيل إليها، وبعد امتصاص الضربة الأولى، فإنّ الحرب ستتحوّل إلى حربٍ طويلة واستنزافية وعنيفة لن تتحمّل الولايات المتحدة، ولا إسرائيل الاستمرار بها، خصوصاً وأن هكذا ورطة ستؤدّي ــ حتماً ــ إلى حالة غليان في العالمين العربي والإسلامي، والى تهديد كل المصالح الغربية في كامل الإقليمين العربي والإسلامي، وقد تتعدّى الأمور وتصل إلى أبعد من ذلك بامتداد الرفض والغليان إلى العواصم «الغربية» نفسها.
ولن تقف الأمور عند هذا الحدّ، فإنّ الحرب إذا امتدّت إلى إيران فيمكن أن تصل التطوّرات إلى قَطْع إمدادات النفط والغاز، أو تقطع وصوله، وهو أمرٌ لا يستطيع الاقتصاد «الغربي» تحمُّله في حالة إن طالت الحرب واستطالت.
كما لا يمكن استبعاد أن تقوم الصين بإحكام سيطرتها على تايوان، وقد تحسم روسيا الحرب في أيّام وأسابيع معدودة حتى لا تتيح للولايات المتحدة وأوروبا «الغربية»، و»حلف الأطلسي» كلّه بالتقاط أنفاسه والعودة إلى ساحة الصراع في أوكرانيا أو في المحيطين الهندي والهادئ.
لم تكن الولايات المتحدة لتعود بهذه السرعة إلى منطقة إقليم الشرق الأوسط لولا أنّها شعرت ولمست عمق الهزيمة التي مُنيت بها إسرائيل، ولولا أنّها ــ أي الولايات المتحدة ــ تطمح بأن «تعوّض» من خلال تدخلها المباشر في الحرب على الشعب الفلسطيني خساراتها في أوكرانيا، وبحيث تراهن على تحقيق «نصرٍ» كبيرٍ في هذه الحرب يمكّنها من معاودة الهجوم على الجبهة الأوكرانية ــ من موقع «المراوغ» و»المنتصر ــ وبذلك ستتمكّن من المساومة مع روسيا والصين بشروطٍ أفضل من الشروط التي خشيت أن تُجرّ اليها هناك.
ما زلنا عند منتصف هذا المفصل الكبير، ولذلك فإنّنا نعيش في هذه الأيّام لحظاتٍ مصيرية لفلسطين، بكلّ ما هي عليه من حقوق وأهداف، ومن ظلمٍ وعدوان، ومن عدالةٍ مُغيّبة عانت منها على مدى أكثر من خمسةٍ وسبعين عاماً من عدوانية إسرائيل، ومن عنصريتها، وبطشها وجبروتها، ومن أشكال النهب والسلب والتشريد والتبديد لأدنى متطلّبات الحياة.
ونحن في منتصف هذا المفصل، وتعيش إسرائيل لحظات مصيرية قد تمكّنها من السيطرة والهيمنة الكاملة، أو أنّها ستجد نفسها وقد انتهت إلى دولة يائسة وبائسة، يفرّ سكانها بالملايين، وإلى دولة فاشلة، فشلت في حلّ «المسألة اليهودية»، بل وعمّقت من مأساتهم، وحوّلتهم إلى مجرّد وقودٍ للأطماع الصهيونية الخائبة، ولعُتاة وأباطرة الرأسمال «الغربي».
وأخيراً، فإنّ الولايات المتحدة و»الغرب»، إمّا سينجحون في إعادة إخضاع الإقليم للهيمنة المطلقة، أو أنّهم من هنا، ومن فلسطين بالذّات ستبدأ أولى وأكبر هزائمهم.
وتبدو إسرائيل والولايات المتحدة أمام قراراتٍ مصيريّة، فإمّا أن يتوغّلوا في الدّم الفلسطيني ويُغامروا بحربٍ طاحنة، وإمّا أن يتراجعوا ويقبلوا بهزيمة إسرائيل المُغلّفة بالدّم والعنصرية والانتقام ليس إلّا.
وهذا كلّه لن يُغيّر من هزيمة إسرائيل على الإطلاق، إن لم نقل بأنّه يمكن أن يجعلها أكبر عند انتقال الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي.