واحدة من مفاجآت حرب الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الإرهاب الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ أسبوعين، كانت حجم ومستوى الانحياز الأميركي لإرهاب الدولة الإسرائيلية، ولما أقدمت عليه من ارتكاب جرائم حرب، لا يمكن النظر إليها على أنها انحياز لإسرائيل؛ لأنه حتى في داخل إسرائيل هناك أناس رفضوا تلك الجرائم، وسعوا منذ عقود للعيش بسلام وأمن مع جيرانهم، أي أن انحياز إدارة البيت الأبيض لدرجة المشاركة في إدارة الحرب على المدنيين، لا يمكن إلا اعتباره انحيازاً للقوى الفاشية داخل إسرائيل، وفي هذا السياق نحن ننطلق من عدد من الحقائق المرتبطة بما أعلنته الإدارة الأميركية نفسها، إن كان من خلال مسؤولي البيت الأبيض بمن فيهم الرئيس جو بايدن نفسه، أو الخارجية ممثلة بوزيرها أنتوني بلينكن.
ربما كان مفهوما في اليوم الأول للحرب، أي عشية تنفيذ كوماندوز القسام، عملية «طوفان الأقصى» باختراق الحدود والهجوم على كتيبة غزة الإسرائيلية، وإلحاق الخسائر البشرية بها، بعد مباغتتها، ما بين قتيل وجريح وأسير، أن تعلن الإدارة الأميركية أنها مع حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، مع أن هذا يمكنه أن يكون أكثر عدالة لو تم تعديله بالقول، إنها مع حق الدول والشعوب كافة، أو مع حق الجانبين بالدفاع عن نفسيهما، خاصة وأن الإدارة الأميركية هي تمثل دولة، تعتبر نفسها مسؤولة عن قيادة النظام العالمي، كذلك مع الإشارة إلى أن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لم تتجاوزه حماس في تلك العملية لأنها استهدفت كتيبة هي أصلاً مكلفة الهجوم على غزة، وهي التي شنت الحروب الخمس السابقة عليها، وإذا كانت إسرائيل تعتبر من حقها، أن تلاحق قادة وعناصر المقاومة في غزة، في أي وقت بالغارات الجوية والاغتيالات، وحتى بالاختراقات البرية، فإن للآخر الحق الذي تمنحه إسرائيل لنفسها.
لكن مع تحول المشهد إلى شن غارات وهجوم إسرائيلي كاسح على المدنيين، بدليل سقوط نحو خمسة آلاف شهيد ونحو خمسة عشر ألف جريح خلال أسبوعين، نحو 70% منهم نساء وأطفال، وقد بقيت لغة واشنطن كما هي، فإن الأمر صار يعني بكل بساطة ووضوح، أن الدولة العظمى لم تعد مؤهلة لقيادة العالم، وأن النظام العالمي الأميركي الحالي، إنما هو نظام ظالم، لا يمكن لحركات التحرر ولا لأحرار العالم، وفي مقدمتهم الفلسطينيون أن يكونوا معه، أو أن يحتكموا له، بل من أجل حريتهم لا بد لهم أن يكونوا ضده، وأن يحاربوا سياساته ومواقفه في كل مكان.
وقد أظهر بكل صفاقة وزير الخارجية الأميركي بلينكن ليس انحياز بلاده فقط، بل مشاركتها في حرب إجرامية تشن على المدنيين، بسبب الانحياز إلى سياسة متطرفي الحكومة الإسرائيلية، الذين منذ تشكيلها وهم يقومون بكل ما من شأنه أن يشعل النار، في الأقصى وكل مدن الضفة الفلسطينية، إضافة إلى الحصار الذي يمثل إرهاب الدولة الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة منذ سبعة عشر عاماً، فهو جاء ليقول إنه جاء كيهودي وليس كوزير خارجية أميركي، أي أن مجيئه لم يكن بدافع تهدئة الأمور ووقف التصعيد، بل لمساعدة إسرائيل على تنفيذ هدفها المعلن، المتمثل بتهجير سكان قطاع غزة، إلى سيناء المصرية، وذلك بالإقدام على تنفيذ ما يتطلبه ذلك من قتل وتجويع وتعطيش، وارتكاب كل جرائم الحرب، بتحقيق ذلك الهدف الذي هو بحد ذاته يعتبر جريمة حرب، أي تهجير السكان، لذا لم يتغير الموقف الأميركي طول تلك الأيام التي شهدت إلقاء ربع قنبلة نووية حسب تقدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، على قطاع غزة.
الأنكى من ذلك بقي بلينكن في المنطقة يتجول بين عواصمها، للحصول على تأييد عربي لعملية الترانسفير، ومن ضمن ذلك الصمت على قطع الماء والكهرباء والدواء والغذاء عن السكان المدنيين، وحين فشل في ذلك، لأن القاهرة وعمان قالتا لا صريحتين، وهما دولتا الجوار اللتان تربطهما علاقات دبلوماسية واتفاقيات سلام مع إسرائيل، استعان برئيسه، أي جو بايدن، حيث أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي سيزور تل أبيب، في إشارة للشد على يديها التي تطلق حمم القتل على المدنيين، وعمان حيث سيلتقي كلاً من الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس محمود عباس.
للوهلة الأولى، قدّر بعض المراقبين أن زيارة بايدن للمنطقة ستحمل معها موقفاً من شأنه أن يخفض مستوى التصعيد، وأن يبحث مع عقلاء المنطقة في الحل المناسب، لكن إسرائيل التي تسعى كما يبدو إلى دفع الأمور نحو حرب إقليمية، تقود طرفيها أميركا وإيران.
أي أن إسرائيل وجدتها أخيراً الفرصة المناسبة التي طالما سعت إليها منذ سنين، لإشعال حرب بين أميركا وإيران، كما سبق وفعلت قبل عقدين من الزمان، بدفع أميركا لشن الحرب على العراق، ولهذا فقد استبقت زيارة بايدن بارتكاب جريمة الحرب الصريحة والتي بها اخترقت كل المحرمات الدولية، بإلقاء قنابل القتل على التجمع المدني، وفي مستشفى المعمداني بوسط مدينة غزة، حيث أوقعت نحو خمسمائة شهيد وأربعمائة جريح، في ضربة جوية واحدة، حيث لأول مرة نرى أن عدد الشهداء يزيد على عدد الجرحى، نظراً لأن المدنيين العزل ظنوا أن المستشفى مكان آمن فلجؤوا إليه، إلى أن اكتظ بهم.
كان يمكن لتلك الجريمة أن تدفع الرئيس الأميركي لأن يفرض على إسرائيل وقف الحرب فوراً، أو أن يقطع زيارته على أقل تقدير، أو أن يعلن انسحابه من المشاركة فيها، أو حتى من التوسط فيها، لكنه بكل صفاقة لا تليق بزعيم عصابة إجرامية، جاء لتل أبيب وأعلن أنه مع إسرائيل، كما لو كان عضواً في كابينت الحرب، أو أنه يقوده باعتباره رئيسه، وأكثر من ذلك صادق على الرواية الإسرائيلية التي لا يسمعها إلا ساذج، والتي تقول إن جريمة الحرب التي وقعت في المعمداني كانت بنيران صديقة، أي بفعل ذاتي، طبعاً طفل صغير يعرف أن كل صواريخ المقاومة لا يمكنها أن تلحق الدمار الذي تلحقه صواريخ وقذائف الطائرات الإسرائيلية، ولا أن تقتل عشر ما تلحقه تلك الطائرات من ضحايا.
ولأن قدر غزة، كما أشرنا في مقال سابق، مثل قدر لينينغراد، والتي هي ثاني المدن الروسية وعاصمة روسيا القيصرية قبل مائتي عام، وذلك بعد إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن تغرق بدماء ضحاياها وحش الفاشية، كذلك فعلت غزة، فما هي إلا دقائق وكانت عواصم ومدن الشرق الأوسط تصرخ في وجه الوحش الإسرائيلي وتحيط بسفارته في العواصم العربية، كما أن جريمة الحرب تلك تسببت فوراً في إشعال الضفة الغربية، ومن ثم قلبت الطاولة الرسمية في وجه بايدن، بحيث أغلقت البوابة العربية في وجهه، وهكذا بقي في تل أبيب، أي أن زيارته اقتصرت على حقيقة كونه منحازاً فقط للعدوان الإسرائيلي.
إن أميركا بقيادة بايدن، الساعي من خلال الدم الفلسطيني للبقاء في البيت الأبيض لولاية أخرى، لا يستحقها بنظر الناخبين الأميركيين، تخسر كثيراً في هذا الانحياز القبيح والصريح، ليس لإسرائيل سياسياً - كما أشرنا - ولكن لمجرمي الحرب الإسرائيليين، وبما يشي بأن أيديولوجيا الهيمنة الإمبريالية ما زالت قابعة في رؤوس زعماء الغرب اليمينيين، وذلك بالإشارة إلى مواقف بريطانيا وألمانيا أيضاً مع أميركا.
وكما كان سعي نتنياهو للبقاء في الحكم وبالاً على إسرائيل، بعد أن اضطر للرضوخ لأيديولوجيا التطرف مع بن غفير وسموتريتش، فإن انحياز بايدن ببيته الأبيض لمجرمي الحرب الإسرائيليين، لن يكون وبالاً على إسرائيل أيضاً فقط، وذلك بوضع الحواجز أمام اندماجها في الشرق الأوسط، وقد سقط احتمال التطبيع قريباً مع السعودية، أو قبل دخول بايدن حمى الانتخابات، بل سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش النظام العالمي الأميركي، وذلك لأن التنديد العالمي، الذي كان يهتف ضد الإمبريالية في أيام الحرب الباردة، بدأ يعود، بعد أن ظهرت أميركا بأسوأ وجه لدولة عظمى في ظل نظام عالمي وحيد القطب.