بعد مرور أسبوع على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أي منذ نحو عشرة أيام، والداخل الإسرائيلي مشغول بالسؤال حول انتقال تلك الحرب للمرحلة التالية، أي بعد القصف الجوي، الذي طال اكثر من نصف الأبراج والمنازل، وحرق أرض قطاع غزة حرقا، وشمل المساجد والكنائس والمستشفيات والمؤسسات العامة، أي انه لم يترك شبراً واحداً، لم يقم بقصفه، فإنه من الطبيعي ان تنتقل الحرب، هذا إذا كان الهدف منها، مثلما أعلن قادة العدو منذ بدايتها، هو القضاء على حركة حماس، كمقدرات عسكرية وكنظام حكم، أما إذا كان الهدف مجرد الانتقام، ورد الاعتبار، او تقليم الأظافر، كما سبق لإسرائيل وأن فعلت في خمس حروب سابقة، فإن الحرب البرية الشاملة، أي تلك التي تعني اجتياح بل واحتلال قطاع غزة بالكامل، لن تقع.
ما يبرر التساؤل الذي يدور داخل إسرائيل وحولها، هو أن نحو عشرين يوماً من القصف الجوي المتواصل، في العرف العسكري، يعني بأن القصف قد أدى مهمته وهي التمهيد للحرب البرية، بتدمير المواقع العسكرية المتقدمة للعدو، وفتح الثغرات حتى تدخل قوات الجانب الذي يقوم بالقصف الجوي، أمام تقدم قواته البرية، نقول ما يبرر هذا التساؤل هو مرور كل ذلك الوقت، دون ان تقع الحرب البرية، بل دون أن تتقدم القوات الإسرائيلية البرية، رغم أنها محتشدة على طول الحدود مع قطاع غزة منذ وقت، ورغم حرص القادة العسكريين الإسرائيليين على التأكيد على أن الحرب البرية قادمة لا محالة، إلا أن معظم المراقبين، باتوا يشككون في الأمر، وذلك لأسباب عديدة.
أول تلك الأسباب هي أن تكرار إعلان قادة إسرائيل العسكريين، على تنفيذ الحرب البرية، ما هو إلا خطاب موجه للجمهور الإسرائيلي الغاضب بسبب الإخفاق الأمني والعسكري الذي نتج عن عملية طوفان الأقصى، التي كانت مبتدأ هذه الحرب، لكنهم _أي قادةَ إسرائيل العسكريين، يقولون في نفس الوقت، بأن الحرب ستكون معقدة وقاسية، وأنها ستستمر فترة طويلة، قد تكون عشر سنوات كاملة، وهذا موجه أيضاً لجمهورهم، في محاولة منهم للتأثير عليه، حتى يبدأ في تقبل فكرة عدم الدخول في الحرب البرية، أو الاكتفاء بتوغلات واجتياحات موضعية، لا تصل إلى حد إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، ذلك أن الجمهور الإسرائيلي ما زال يحلم بالعسل، ويظن بأن جيشه قادر على احتلال غزة خلال أيام معدودة، أو أنه يمكنه أن يفعل ذلك في فيلم سينمائي، لا يخسر الكثير فيه من جنوده وقواته البرية.
والحقيقة أنه بالنظر إلى أن الجيش الإسرائيلي سبق له وان توغل برياً في الحرب السابقة التي وقعت عام 2014، وذلك عبر توغلات محدودة، فقد خلالها خسائر بشرية واضحة، وكان ذلك حين دخل حي الشجاعية، فقُتل من قُتل من جنوده وأُسر كل من الملازم هدار جولدن والرقيب أورون شاؤول، فإن الحرب هذه المرة التي تأتي بعد تلك بتسع سنوات، شهدت ازدياداً هائلاً في قوة «حماس» وفصائل المقاومة، خاصة لجهة بناء شبكة الأنفاق، كذلك امتلاك عشرات آلاف الصواريخ والمسيّرات والقدرات القتالية المختلفة، أي أنها ستلحق خسائر بشرية كبيرة جداً في صفوف العدو الإسرائيلي، هذا لو كانت الحرب البرية خاطفة ومحدودة، فما بالنا، أن تستمر مدة طويلة لشهور أو سنوات، ذلك أن حرباً تستمر سنوات، ستعيد للأذهان حرب الأميركيين الخاسرة في فيتنام، ذلك أنه في حال احتل العدو أرض الخصم، فإن شن حرب عصابات عليه، وبقاءه فترة طويلة، سيعني بأنه خاسر في نهايتها لا محالة.
وحتى تجربة الجيش الإسرائيلي في حروبه السابقة، لم تتعد الحروب الخاطفة السريعة، ودائماً ما كان يعاني الويل من حروب الاستنزاف، كما فعلت مصر معه بعد حرب العام 67، وكما سبق لفدائيي (م ت ف) أن فعلوا معه خلال الفترة ما بين عامي 67_82.
كل هذا تضاف إليه حسابات أخرى، فهناك الرهائن خاصة مزدوجي الجنسية وهي قضية تعطل شن الحرب البرية، وهناك حسابات لها علاقة بالمحيط، إن كان الإقليمي أو حتى الدولي، والذي هو الآن صاخب بفعل التظاهرات الرافضة للحرب والتي تجوب العالم كله، ذلك أن حربا خاطفة يمكنها أن تقع دون أن تدخل في حسابات إقليمية، أي تقع وتنهي قبل أن تصل ردود الفعل إلى تدخل جبهات أخرى، وإسرائيل تعلن منذ وقت طويل بأنه من الصعب عليها الدخول في حرب مع عدة جبهات في نفس الوقت، ولهذا كان تدخل الولايات المتحدة، أولاً بإرسال حاملتي الطائرات جيرالد فورد، ثم ايزنهاور وذلك من أجل ضمان عدم تدخل حزب الله أو أية جبهة أخرى الحرب إلى جانب غزة، لمساعدة إسرائيل في الاستفراد بغزة، ثم لجأت أميركا لممارسة الضغوط السياسية على الدول العربية، بما فيها لبنان لضمان هذا الأمر، وبالطبع فإن تحويل الحرب بين إسرائيل وغزة من جانب أميركا إلى حرب دولية، لدرجة أن الرئيس الأميركي جو بايدن يعتبر انتصار إسرائيل وأوكرانيا في حربهما بأنه أمر حيوي للأمن القومي الأميركي، وطالب الكونغرس من أجل ذلك بـ 105 مليارات دولار مخصصات أمنية لكل من الدولتين.
هذا يعني ببساطة بأنه مقابل أميركا سيظهر الطرف الآخر الذي رفع منذ وقت شعار التحدي للنظام العالمي الأميركي، وبتقديرنا لن يقتصر الأمر على إيران، التي لن تقف مكتوفة الأيدي، وهي فعلا تقود حركة سياسية مضادة للتحركات الأميركية_الغربية، ذات الطابع الاستعماري، فروسيا التي حققت لها حرب غزة مع إسرائيل ضغطاً مضاداً، أو هجوماً عالمياً، ظهرت آثاره على قيادتها محاولة استصدار قرارات من مجلس الأمن لوقف الحرب الإسرائيلية المسعورة على غزة، نظن بأن روسيا لن تكتفي بهذا ولا بإرسال مواد الإغاثة فقط إلى غزة، فهي يمكنها أن تفعل لغزة ما تفعله أميركا لأوكرانيا، أي أن تمدها بالسلاح والعتاد، وأن تساعد في فتح جبهات الإسناد، خاصة من سورية.
ولا يمكن هنا لنا أن ننسى الصين، فهي أيضاً قد تجدها فرصة، كما حدث مع روسيا، التي حررتها حرب غزة_إسرائيل من مواصلة تركيز العالم على حربها مع أوكرانيا، قد تجد الصين فرصتها في ضم تايوان إليها، وإغلاق ذلك الملف الذي تبتزها به أميركا منذ وقت، بل وتجعل من تايوان بمثابة منصة إطلاق صواريخ أميركية مصوّبة نحو الصين، وأميركا حقيقة جعلت من ثلاث دول هي تايوان، أوكرانيا وإسرائيل بمثابة قواعد لإعادة فرض الهيمنة الامبريالية وإعادة فرض النظام العالمي الأميركي على شرق الكرة الأرضية وشرق أوروبا وشرق المتوسط _وهذا موضوع مقال لاحق لنا، سننشره هنا.
أي أن حرباً برية إسرائيلية على قطاع غزة تطول، فضلاً عما ستلحقه من خسائر في صفوف الجنود الإسرائيليين، فإنها ستكون بمثابة عود ثقاب يشعل الشرق الأوسط والعالم، في حرب مدمرة بكل معنى الكلمة، أي أن حرباً بهذه المواصفات، طويلة ومعقدة وتستمر سنينَ قد تصل لخمس وعشرين سنة، وفق ما قدره الخبير العسكري المصري العميد سمير راغب، ستكون بمثابة وجبة مسمومة لإسرائيل، لذا فإنه بتقديرنا ستكون إسرائيل فيما يخص حربها البرية أمام أحد خيارين، هما: ترحيل كل سكان غزة خارج حدود القطاع، كما حاولت منذ بداية الحرب وتصدت مصر لهذه الخطة، بسبب من تبعاتها السياسية والعسكرية اللاحقة، وذلك حتى يتسنى لها تدمير كل ما هو فوق الأرض من أبراج ومنازل وأبنية، وردمها على ما هو بباطن الأرض من أنفاق ومقاومين، ويذلك تقضي على حماس دون خسائر كبيرة، بل دون مواجهة عسكرية.
أما الخيار الثاني فهو أن تكتفي بتوغلات برية بطيئة، تبدأ باختراقات تكشف من خلالها فتحات الأنفاق حين يخرج لها رجال المقاومة، فتدمرها، وإسرائيل بدأت تفعل هذا في شمال القطاع وشرق مدينة غزة، وهكذا يمكن للحرب أن تطول بهذا الشكل، في حرب عض للأصابع، يخسر فيها الجيش النظامي والغزاة دون ريب أو شك.