قليل أن نقول، إنّ الكيل قد طفح، فما يجري تجاوز كلّ حدود التفكير السوي وكلّ قيم راكمتها البشرية، بما في ذلك في أيام العبودية السوداء، وغزوات أكلة البشر. ما يجري في قطاع غزّة وعليها، ليس نوعاً من أنواع الحروب المعروفة فليس ثمة جيوش متقابلة، فالمقاومة لا تزال صامدة، وبُنيتها سليمة وهي تنتظر أن يخوض الجيش الإسرائيلي حربه البرّية.
هي حرب على البشر والزرع، والضرع والحجر، لا تلتزم بأي قواعد أخلاقية، أو إنسانية، فتأخذ شكل حرب الإبادة. البيوت تُقصف على رؤوس من فيها، وما تبقّى منها صامداً حتى اللحظة عليها أن تستوعب العشرات، من الباحثين عن أمن ليس موجوداً في أي مكان من القطاع.
لا بدّ أنّ قادة الحرب في البيت الأبيض وإسرائيل، ومن خلفهم أوروبا الغربية، أنهم يستمتعون حين تتسبّب كل قذيفة في قتل العشرات وإصابة العشرات.
لا بدّ أنّهم يستمتعون حين يشاهدون المستشفيات وسيّارات الإسعاف و»الدفاع المدني»، والمساجد، والمدارس، ورياض الأطفال، وهي تُقصف وتتحوّل إلى رماد.
لا بدّ أنّهم يستمتعون وهم يشاهدون من تبقّى على قيد الحياة، وهم يصطفُّون طوابير طويلة أمام المخابز المتبقّية، وأمام صنابير الماء، والباحثين عن الغاز والمحروقات لتسيير حياتهم يوماً بيوم وفق معايير الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة.
لا يرغب هؤلاء في سماع صرخات المؤسّسات الدولية، التي تحذّر من كوارث صحية وبيئية، ومن انعدام وسائل الحياة.
أصاب الشلل القطاع الصحي، بعد أن خرجت العديد من المستشفيات من الخدمة، إمّا بسبب القصف، أو بسبب غياب الكهرباء والمحروقات، أو بسبب النقص الفادح في المستلزمات والمستهلكات الطبّية.
لا بدّ أنّ هؤلاء من قتلة الإنسانية، يفركون أصابعهم في انتظار المزيد من الشهداء والجرحى، والدمار. المستشفيات تحوّلت إلى مراكز فقط لاستقبال الجثامين، لأغراض الإحصاء، والدفن الجماعي، والجرحى لقدر الله وحده، فلقد توقفت الطواقم الطبّية عن إجراء العمليات، وبالكاد تستطيع المساعدة في تقديم إسعافات أوّلية.
هي حرب ذريعتها القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة، لكنّها حربٌ على القضية الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني ابتداءً من غزّة.
صحيحٌ أنّ مخطّط التهجير قد فشل حتى الآن، لكنه استُبدل بمخطّط الإبادة، ريثما تتوفّر لاحقاً شروط التهجير فيكون من ساعد على ذلك وكأنّه أنقذ البشر ممّن تبقُّوا يتنفّسون.
غزّة مجرّد المرحلة الأولى التي ينشغل بها جيش الاحتلال الإسرائيلي ومن يدعمه من كبريات الدول الاستعمارية ولكن الضفة الغربية تُترك لبن غفير وسموتريتش، لكي يمهّدا الأرض، من أجل تنفيذ الحلقة الثانية من مخطّط التهجير.
لكنّ الأهداف تذهب إلى ما هو أبعد، لتطال الشرق الأوسط بما يمهّد الطريق أمام التوسّع الصهيوني، وتكريس الهيمنة الاستعمارية عليه.
وفق المخطّط فإنّ الأردن هي الضحيّة الأولى المستهدفة.
يعتقد بعض العرب أنّهم في منأى عن هذا المخطّط الذي يسعى مرّة أخرى إلى نشر الفتن والصراعات الداخلية، وتغذية الصراعات الطائفية والعرقية وإنعاش الجماعات الإرهابية.
من يصمت، اليوم، ظنّاً بأنّه ينقد نظامه وبلاده سيقول يوماً، «أكلتُ يومَ أُكلَ الثور الأبيض». يُحاول بعض العرب تعزيز استقلاليتهم عن الدول الاستعمارية، ويظهرون حكمة في البحث عن خيارات لتحصين سيادتهم على ثرواتهم.
إنّ هذا بالتأكيد يُغيظ الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها الذين بدؤوا يفقدون وجودهم في إفريقيا، ودول الشرق الأوسط، بما في ذلك الدول العربية.
لقد سقطت منظومة الكذب إزاء الحرص على حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وتجنُّب استهداف المدنيين وقت الحرب، ومعها سقطت المنظومة الأخلاقية ليتكشّف الأمر عن واقع أنظمة استعمارية، ليس الإنسان بالنسبة لها سوى سلعة قابلة للتداول وفق معايير مزدوجة.
في أوكرانيا يحتشد «الغرب»، بكلّ إمكانيّاته، تحت عنوان: «مقاومة الغزو الاحتلالي الروسي»، وفي إسرائيل يحتشدون لـ»الدفاع عن الاحتلال»، ويستبيحون حياة شعبٍ يناضل من أجل حرّيته.
هذه مسألة رأي عام لا بدّ أنّه سيصحو على كذب حكوماته، ولكنّها، أيضاً، مسألة الشعوب المستهدفة التي ينبغي ألا تتأخّر في الدفاع عن حياتها ومستقبلها أمام الأطماع الاستعمارية.
في هذه الحرب التي تشكّل فصلاً من فصول الحرب العالمية الدائرة رحاها، لا ننتظر روسيا أو الصين، وهما طرفا المعادلة الأساسيان لـ»الحلف الغربي»، لا ننتظر من هؤلاء أن يقتربوا بفعالية من الميدان، إلّا إذا قرّرت الدول العربية أنها ستخوض مواجهة لحماية حقوقها ووجودها وأمنها واستقرارها.
كثيرون في هذا العالم يرغبون في رؤية غزّة كلّ غزّة، وقد ابتلعها البحر، أو دمّرتها آلة القتل الصهيونية، ولكن لا يجوز إطلاقاً وفق أي معايير أن يصبح الحقّد على «حماس»، سبباً في الصمت على ما يجري إزاء الشعب والقضية.
«حماس» ليست حركة إرهابية، فهي جزءٌ أصيل من حركة التحرّر الفلسطينية والعربية تُقاتل من أجل انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته عن شعوب وأمن ومصالح الأمّة العربية.
لا يجوز لأحد أن يأخذ «حماس» بجريرة العداء لـ»جماعة الإخوان المسلمين»، ذلك أنّ قضية الشعب الفلسطيني مختلفة، فضلاً عن أنّ «جماعة الإخوان» لم تعد تملك ما يُساعدها على تنفيذ مشروعها السياسي في المنطقة، كما أنّ على الجميع أن يتذكّر بأنّ الولايات المتحدة هي من وقفت وتقف خلف «جماعة الإخوان»، وعصر باراك أوباما شاهد على ذلك.
وبصفةٍ عامّة وخاصّة فإنّ الإرهاب بما في ذلك الذي يُنسب للإسلام والمسلمين هو في الأساس صناعة أميركية و»غربية» والإسلام والمسلمون براء منه.
أهل غزّة كجزء من الشعب العربي الفلسطيني لا يطلبون من أشقّائهم العرب أن يُجنّدوا جيوشهم دفاعاً عن القضيّة وأهلها، وإن كان ذلك من حيث المبدأ مطلباً مُحقّاً، لكنهم يطلبون توظيف ما لديهم ولديهم أوراق قويّة، لوقف آلة القتل البشعة، والجرائم المستمرة التي ترتكبها إسرائيل ومن يقف إلى جانبها وليس خلفها فقط.
إعلان المواقف والتصريحات والبيانات، ولغة الشجب والاستنكار لا تكفي لتبرئة الصامتين، والمتفرّجين على مشاهد قتل الحياة في فلسطين.
سيصمد أهل غزّة، ولكن على دولة الإرهاب الاحتلالية العنصرية، أن تتحسّب لثأر جيلٍ قادم، ممّن فقدوا آباءهم وأبناءهم وأُمّهاتهم، ودمّرت حياتهم.
وسيؤدّي هذا الدمار الشامل للبيوت، إلى عودة مئات الآلاف إلى حياة الخيام، ولكنهم لن يغادروا أرض الوطن، وسيُعيدون بناء حياتهم من جديد لكي يثأروا من كلّ من دمّر حياتهم أو صمت على ذلك.
إذا كانت هذه الحرب فصلاً من فصول حرب عالمية أراد لها جو بايدن أن تنتصر في أوكرانيا وإسرائيل، فإنّ هذه الحرب، قد تكون فصلاً متقدّماً من فصول إنهاء وظيفة إسرائيل في المنطقة.
لا تَثِقُوا كثيراً ولا تَخَافُوا من وجود أساطيل، وبوارج الولايات المتحدة في شرق «المتوسّط» والمنطقة، وتذكّروا أنّ لبنان الصغير بمساحته والكبير بمقاومته قد مرّغ أنفَ الولايات المتحدة أكثر من مرّة.
هذه الحرب ليست محسومة لصالح معسكر الولايات المتحدة، ولا يزال أمامنا الكثير من المفاجآت، فلقد اختاروا الانتصار على شعب استثنائي، يشهد له كتّاب إسرائيليون بالجُرأة والإصرار، والإبداع، والحيويّة، والقُدرة على المواجهة.