وصلت المقاومة الفلسطينية في وجه الهيمنة الإسرائيلية إلى ذروتها عندما شنت كتائب عز الدين القسام، القوات شبه العسكرية التابعة لحماس، هجومًا غير مسبوق أعاد تشكيل طبيعة الصراع. على إثر هذا الهجوم، تعهد الإسرائيليون بإبادة الجماعة حتى لو كان ذلك يعني استخدام تكتيكات الأرض المحروقة، واحتشد النقاد والقوى الغربية خلفهم وقطع الكثيرون المساعدات عن القطاع، مؤيدين سياسة العقاب الجماعي في انتهاك صارخ للمبادئ الأساسية للقانون الدولي التي صاغوها بأنفسهم بعد خوضهم حربين عالميتين. يعبر المسؤولون عن سخطهم وحزنهم على "الشر المطلق" الذي أودى إلى خسارة أرواح إسرائيلية لكن لا أحد يقر بأن ذلك ما هو إلا ردة فعل على سياسة الخنق التي عانت منها غزة على مدار ما يقرب من 16 عامًا وما شهدته هذه الفترة من آلاف القتلى والمشوهين والمعوزين – يتم منذ ما يقرب من عقدين من الزمن تقييد كميات المياه والطاقة التي تصل إلى غزة بينما تلوث مياه الصرف الصحي الحقول ويُمنع الصيادون من الوصول إلى البحر ويتم حرمان السكان من تلقي العلاج الطبي ويتم تقنين إمدادات الوقود والمواد الغذائية لدرجة أنه يتم حساب السعرات الحرارية الضرورية للحفاظ على مستويات اليأس.
وبهذا يتقدم جالوت الآن نحو غزة، في خطوة أخيرة لتنفيذ مخطط عمره قرن من الزمان يهدف إلى إفراغ فلسطين من سكانها الأصليين. كتب تيودور هرتزل، مؤسس المؤتمر الصهيوني الأول، عن دفع السكان إلى البلدان المجاورة في عام 1895، مشيرًا إلى أن "المصادرة... يجب أن تتم بتكتم وحذر". وبعد ما يقرب من نصف قرن، نفذت القيادة الصهيونية العليا الخطة "د" التي تناولت بالتفصيل "تدمير القرى (إشعال النار والتفجير وزرع الألغام في الأنقاض)، وخاصة المراكز السكانية التي يصعب السيطرة عليها بشكل مستمر". ثم أتت بعد ذلك خطة بيغن برافر لعام 2011 التي نظمت التطهير العرقي للعرب البدو في النقب.
ماذا توقع الإسرائيليون بعد أن رفضوا الفوز الذي حققه الإسلاميون في الانتخابات في عام 2006 وفرضوا حصارًا غير إنساني على غزة؟ الصهيوني السابق المتخصص في الصدمة غابور ماتي يقول: "فكر في أسوأ شيء يمكن أن تقوله عن حماس، ثم اضربه في 1000، هذا لا يساوي القمع والقتل والتشريد الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين". كانت مكائد اليمين المتطرف التي يمارسها مستبدون مثل بنيامين نتنياهو ونفتالي بينيت وتسيبي ليفني وبتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن جفير وبيني غانتس، الذين يخططون بوضوح لضم الضفة الغربية وتدمير قبة الصخرة وإنهاء الحكم الذاتي في غزة، بمثابة محفز حتمي لما جرى، ولذلك فقد كان يوم السابع من أكتوبر مجرد مرحلة أخرى في المقاومة الفلسطينية التي استهدفت المنشآت العسكرية والمستوطنات، إلا أن وسائل الإعلام تناولت الرواية الإسرائيلية التي صورت الهجوم على أنه هجوم على المدنيين.
ربما تكون الموارد الإسرائيلية، سواء كانت قوة عسكرية أو آلات دعائية، متفوقة لكن غطرسة النظام ستؤدي إلى انتصار باهظ الثمن يضخم إخفاقاتها. تمكنت حماس من إذلال حكومة نتنياهو على الرغم من وجود مشروع القبة الحديدية الذي موله دافعو الضرائب الأمريكيون – بقيمة تصل إلى 1.6 مليار دولار حتى عام 2021 – والجدار الحديدي "الذكي" الذي تبلغ كلفته مليار دولار وهو مزود بأجهزة استشعار تحت الأرض وأنظمة رادار ورشاشات يتم التحكم فيها عن بعد وأسلاك شائكة وسور خرساني بطول 60 كيلومترًا. لقد غيرت الضربة الفلسطينية الخاطفة المفاهيم إلى الأبد، إذ يواصل المحللون المتشائمون التعبير عن عدم تصديقهم ويحاول العديد من السياسيين الترويج إلى أن خطة الهجم لم يتم تطويرها محليًا وينسبون الفضل في تطويرها لإيران، ربما لغرض خلق ثغرات من أجل تصفية حسابات إقليمية، وهذا سيناريو معقول بالنظر إلى حجم الآلات والذخائر التي أرسلتها أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون.
ولكن على الرغم من أن الزعماء الغربيين يتغنون بحالة الظلم الذي يخلقها الغزو وبحق المحتل في الدفاع عن نفسه، إلا أن الغول الإسرائيلي أثبت أنه نمر من ورق. لقد ضرب داوود الفلسطيني جالوت الإسرائيلي وسُمعت الضربة في أرجاء العالم. يعرف منشئو وسائل التواصل الاجتماعي والمنظمات غير الحكومية جيدًا أن الإسرائيليين هم المحرضون على الرغم من الحملة الدعائية المنسقة والممولة جيدًا وقاعات الكونجرس والبيت الأبيض المزدحمة بأعضاء منظمة "آيباك" والمدينين بالفضل لمنظمة "أصدقاء إسرائيل الأوروبيين" ومجموعة اللوبي "الشؤون العامة الأوروبية الإسرائيلية" ومنظمة بناي بريث أوروبا ومنظمة أصدقاء يهودا والسامرة في البرلمان الأوروبي على سبيل المثال لا الحصر.
نحن لسنا متوهمين إذ نعلم أن الإسرائيليين ليس لديهم بوصلة أخلاقية وسيستخدمون كل الذخائر غير القانونية مثل قنابل الفسفور التي يلقون بها على المدنيين والمستشفيات والمساجد والمباني السكنية لارتكاب جرائم حرب لن يحاسبهم عليها أحد. قُتل 2,251 فلسطينيًا في عام 2014، على سبيل المثال، ثلثهم من الأطفال، وأصيب أكثر من 11,000 آخرين، ودُمرت 18,000 وحدة سكنية، وفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، لكن أحدًا لم يعاقب. قتل الإسرائيليون أكثر من 4000 شخص حتى ولا نتوقع أي مساءلة الآن أيضًا. ونظرًا لمقتل أكثر من ألف جندي إسرائيلي ومستوطن مسلح وأسر العديد منهم، فلن يهنأ لهم بال حتى يمسحوا جزءًا كبيرًا من غزة. تسبب الإسرائيليون في موت ودمار مروعين، لكننا اعتدنا على مؤامراتهم طوال الـ 75 عامًا الماضية، وحتى لو نجح الإسرائيليون في تحويل غزة إلى أنقاض وأعادوا احتلالها، فلن ينجحوا في السيطرة على السكان الذين شهدوا ضعفهم خلف الجدار الحديدي. نأمل أن يعود المجتمع الدولي إلى رشده وينهي هذا الهجوم الهمجي، ولكن إن لم يفعل فسنستمر في مقاومة أغلال الاحتلال الإسرائيلي.