هلّا وضعنا الانفعال والتسرُّع جانباً؟

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

قد يكون إعلام "حزب الله" نفسه قد ساهم في شحن الحالة المعنوية، وإذكاء المشاعر بالمنتظر من خطاب حسن نصر الله، أمين عام الحزب، وخصوصاً اللقطات التي نشرها هذا الإعلام قبل الخطاب.
وقد يكون إحلال الرغبات والتمنّيات بدلاً من إعمال العقل والمنطق سبباً ممّا شهدناه من مشاعر "الخُذلان" التي أعقبت الخطاب مباشرة لدى قطاعات واسعة، ولا يمكن الاستهانة بها، وليس من حقّ أحد أن يقلّل من شأن هذه المشاعر، أو أن يستخفّ بها، أو يعتبرها خارج سياق "الوعي" العام، أو مدفوعة بمواقف مسبقة، واعتبارات جاهزة سلفاً.
وبالمقابل فقد شاهدنا أنّ مثل هذه الاعتبارات الجاهزة، والمواقف المسبقة، قد صعدت، أو لنقل "قفزت" إلى المنابر، واعتلت المنصّات "لإعلان" تشفّيها، والتعبير عن اغتباطها بتلك المشاعر من الخذلان، وراحت تُطلق لنفسها العَنان في الوصف والتوصيف والتصنيف، دون حساب، ودون وازع، ودون مسؤولية، أيضاً.
المسألة أكبر وأعلى شأناً، وأهمّ بكثير من أن يتحكّم بها الانفعال، أو أن يتواصل هذا التسرُّع، وألا نرى الكثير الكثير من التبعات، ومن الأبعاد، ومن احتمالات ألا تكون "أحكامنا" صحيحة، أيضاً.
فمشاركة "حزب الله" في المعارك ليست "دعائية" على الإطلاق، وتأثيرها ليس شكلياً، ولا بسيطاً، وحجز أكثر من 600 دبّابة ومدرّعة ليس رقماً هامشيّاً، ووضع أكثر من ثلث جيش الاحتلال الإسرائيلي على أعلى درجات التأهُّب من القوات النظامية ليس مسألة ثانوية، والتضحيات التي قدّمها الحزب غالية ومقدّرة، والاستعداد لتصعيد هذه المشاركة، حسب معطيات الميدان في قطاع غزة، وتصاعد هذه المشاركة بمواكبة واضحة لتلك المعطيات ليست كلّها، ولا يجوز أن تكون "مادّة" للاستخفاف، أو التشفّي، أو التندّر على وسائل التواصل الاجتماعي، أو"لتصفية" حسابات طائفيّة، أو خلفيّات سياسيّة "إبراهيميّة"، أو غير "إبراهيميّة"، وليس من مصلحة شعبنا، كلّ شعبنا أن ننزلق وننتقل إلى استبدال لغة العقل بلغة الشتائم، وليس من حقّ أيّ مثقّف أن "يتسابق" مع أحد، أيّ أحد ليفوز بجائزة الانفعال.
وبالعودة إلى الخطاب نفسه، فإنّ ما لا يجب أن يفوتنا هو أن ننظر بواقعية، وأن نرى بالعين الذكيّة والفاحصة جملة الحقائق والخلفيات، وجملة أخرى من الاعتبارات والمعطيات لوضع الخطاب في دائرة العقل والتعقُّل، وفي دائرة الإمكانيات والاحتمالات، ودائرة التنبُّؤات والتوقُّعات، حتى لا ننسى المباغتات والمفاجآت.
أوّلاً وقبل كلّ شيء فإنّ نصر الله قد نقل في خطوة شجاعة وجريئة تهديداته المباشرة، والمبطّنة، أيضاً، إلى الإدارة الأميركية بصورةٍ قصديّة ومتعمّدة في إشارةٍ مهمّة إلى أنّ أيّ مشاركة للحزب أو أيّ جهة أخرى إلى جانبه، وإذا اقتضت الضرورة، وتطلّب الأمر، وأصبحت هذه المشاركة واجبة بصرف النظر عن الأسباب .. فإنّ هذه المشاركة تكون قد أخذت في حسبانها كلّ محاولات "الردع" التي تراهن عليها الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإنّ تهديد نصر الله هنا، ليس للدعاية، وإنّما للردع المقابل، خصوصاً وأن الولايات المتحدة ليست في وضع يؤهّلها مطلقاً للانخراط في حربٍ إقليمية، وهي فعلياً تعمل ليل نهار، وبكلّ السبل والوسائل لتفادي هذا الخطر، ولتجنّبه بكلّ ما تملك من أدوات للضغط الشديد.
وبهذا المعنى، فإنّ ما قاله نصر الله في هذا الإطار بالذات هو بمثابة ضغط مقابل على الإدارة الأميركية لكي تحسب حساباتها بدقّة، قبل فوات الأوان، أو قبل الانزلاق إلى مثل هذه الحرب.
ولا أظنّ أبداً أنّ الولايات المتحدة قد تجاهلت هذا التهديد، وليس أدلّ على ذلك من سرعة التعليق على الخطاب، وقبل أيّ جهة رسمية أخرى، بما في ذلك التعليق الإسرائيلي نفسه.
كما أنّ علينا جميعاً تقدير الاعتبارات والخلفيّات التي تجعل من المشاركة الشاملة في هذه المعارك، بصورةٍ مباشرة، وبمجرّد ظهور أمين عام "حزب الله" على الشاشة هي نظرة غير معمّقة، وغير دقيقة في نفس الوقت، وهي تتعامى عن حقائق المعادلات الداخلية والإقليمية، أيضاً.
ولهذا فقد تمّ من خلال الخطاب إعلان وعد لم يسبق لأحد في هذا العالم قد أعطاه للشعب الفلسطيني، في أيّ مرحلة سابقة، أو عند أيّ مرحلة من مراحل الحروب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، أو على أيّ تجمُّع من تجمُّعات الشعب الفلسطيني.
الوعد بعدم السماح تحت أيّ ظرف من الظروف بهزيمة المقاومة في القطاع، واعتباره لهذا الشرط بمثابة الحدّ الذي لا يمكن أن يسمح به "حزب الله" هو دعم وإسناد غير مسبوق، وهو حالة فريدة وجديدة في موقف الحزب واستعداده.
أظنّ أن الثغرة هنا لا تتعلّق بصدق الوعد، وإنّما الإغفال أو ربّما القفز عن الخسائر الباهظة التي يدفعها الشعب الفلسطيني في القطاع، وفي عدم تحديد معنى ضعف المقاومة أو هزيمتها.
فهذه الخسائر المهولة هي أوّلاً وقبل كل شيء وسيلة الضغط الذي تستخدمها إسرائيل للإمعان في القتل والإجرام، وهي تراهن على أن تشكّل هذه الوسيلة أداةً للضغط على المقاومة في القطاع، وهي تراهن على أن يشكّل هذا القتل الجماعي والتدمير الهائل رسم صورة معيّنة من "الانتصار"، وهي أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ الإستراتيجية التي تراها إسرائيل "الأفضل والأنسب" لها إذا ما تعذّر حسمها للجانب العسكري، وعجزت عن تحقيق هدف كسر وتدمير حالة المقاومة في القطاع.
وكما نعرف فقد أوصى جنرالات جيش الاحتلال بأن يكون القتل والتدمير هو جوهر الإستراتيجية، وأن يكون القتال البرّي فرعاً من فروع هذه الإستراتيجية.
من هنا فإنّ إمكانية أن تنجح الإبادة والتدمير في تحويل أكثر من مليوني فلسطيني إلى لاجئين جدد، وفي تحويل أرض القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة عليها! هي إمكانية واردة دون أن تكون المقاومة قد هزمت عسكرياً.
لا أعرف لماذا لم يتم التأكيد والانتباه على هذه المسألة، وأظنّ أنّ عدم رؤيتها، وإدراك أخطارها وأبعادها هو بمثابة ثغرة في بنيان خطاب نصر الله، وفي إستراتيجية حزبه حيال المعركة.
ليس مطلوباً أن يغامر الحزب بكلّ شيءٍ لمجرّد وجود خسائر باهظة في قطاع غزّة، ولكن المطلوب برأيي وضع هذه المسألة في معادلة الصمود، ومعادلة النصر أو الهزيمة.
وهناك الكثير الكثير من معالم الخطاب الإستراتيجي، بعيدة الأثر والدلالة في خطاب نصر الله، وهي في كلّ الأحوال تعكس وعياً عميقاً بحجم الأخطار، وبسبل مواجهتها، وهو خطاب ما زال محكوماً بمعادلات لا يجوز لأحدٍ أن يتعامى عنها، أو أن يغفلها ويتجاهلها سواء بسوء نيّة أو بغيرها.
كما لا يجوز لأحدٍ، كائناً مَنْ كان أن يقلّل من شأن ما قاله نصر الله من أنّ هذه المعركة مفتوحة على كلّ الاحتمالات، ولا حدود لها عند درجةٍ معينة من تطوّراتها.
المصلحة الوطنية الفلسطينية تقتضي الهدوء والتعقُّل، واستخدام اللغة المناسبة، الحريصة على كلّ من يساهم في جهد إنقاذ شعبنا من هذه الهجمة البربرية، وهذا ليس هو وقت المناكفات والمزايدات، ولا حتّى وقت المراجعات والمحاسبات.