صورة أخرى من غزة

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 


منذ بداية الحرب وحتى الآن، لم يغادر جميع الأطباء والممرضين والمسعفين وكافة العاملين في القطاع الصحي مستشفياتهم، ينامون ويصحون ويأكلون ويمارسون عملهم داخل المستشفى، لم يروا أهاليهم طيلة فترة الحرب، يواصلون أعمالهم ليل نهار، بلا كلل، والمحظوظ منهم من يحصل على بضع ساعات للنوم، ستكون مصحوبة بالكوابيس، وصور الأشلاء، وبالقلق على ذويهم.  
ليست تلك معاناتهم وحسب؛ تخيلوا حجم العذاب النفسي حين يُضطر الطبيب لاتخاذ قرار مصيري تكون فيه حياة الناس على المحك، فجأة تأتي دفعة كبيرة من الجرحى، ربما بالمئات، فيكون عليه مسؤولية اتخاذ القرار والمفاضلة بين مصاب وآخر، فهذا مصاب بكسور، وآخر بحروق، وذاك ينزف بغزارة، وآخر يصرخ ألماً، وبجواره طفل تغطي الدماء وجهه، وطفلة تبكي خوفاً ورعباً وحزناً على ذويها، وكهل يشهق آخر أنفاسه.
ثم تأتي معاناة من مستوى أعلى، سيقوم بعملية كبرى لجريح، وسيضطر لبتر ساق تعفن جرحها، وغرس إبرة التقطيب في جسد طفلة لإيقاف نزيف حاد.. سيقوم بكل ذلك دون تخدير.. سيستمع لصراخ المصابين المرعب.. وسيرى رعباّ أشد في عيون مصاب آخر ينتظر دوره في حفلة التعذيب.. ورعباً أشد في عيون أم ترقب المشهد..
كل هذا المشهد المرعب لا يتم في غرفة عمليات نظيفة ومعقمة ومجهزة.. فهذه الغرف صارت ترفاً وخياراً لم يعد متاحاً، وقد امتلأت المشافي عن آخرها منذ اليوم الأول، هذا المشهد يتم في ممرات وصالات المستشفى، وبين الناس.. وليس أمام الطبيب سوى دقائق أو أكثر قليلاً لينهي عمله وينتقل إلى مصاب آخر.
وفوق ذلك، ليس بيد الطبيب مقصات وملاقط معقمة، ولا أدوية مضادة للالتهابات، ولا مسكنات ألم، ولا أسرّة، وشراشف، والأجهزة الطبية على وشك التوقف، والمستلزمات الضرورية نفدت.
ثم يأتي الرعب الأكبر، سيكتشف الطبيب أن الشهيد الذي سيدخله إلى المشرحة هو والده، أو شقيقه، وسيكتشف المسعف أن من يحاول إخراج جثامينهم من تحت الأنقاض هم أطفاله، كما اكتشف الصحافي وهو يغطي خبراً عن شمال غزة أن كل عائلته استشهدت في جنوبها، في الوقت ذاته، كما يكتشف الإطفائي أن الحريق الذي يحاول إطفاءه هو لبيت عمه أو جاره الطيب. وأن زملاءه من رجال الدفاع المدني قُصفت سيارتهم، كما قُصفت سيارة الإسعاف وقضى كل من فيها قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم.. (استشهد 150 من العاملين في القطاع الصحي).
سيخرج الطبيب أو الممرض لتنشق القليل من الهواء، فيرى حول المستشفى ثلاثين ألف نازح، ينامون ويصحون في باحته الصغيرة.. ثم يأتيه تهديد من طائرة حربية أنها ستقصف المستشفى، وأمامه ساعات لإخلاء المرضى والجرحى والأجهزة والملفات والأسرّة والأدوية والمستلزمات، ومعهم آلاف النازحين.. أين سيذهبون؟ وكيف؟ لا أحد يعرف، المهم أن تواصل الطائرة قصفها الهمجي.
ثم تنفذ الطائرات تهديدها بالفعل، وتقصف المستشفى المعمداني، ويموت بلمح البصر 500 إنسان.. ثم تواصل قصف مستشفيات أخرى، أو محيطها.
هذا كله لا يكفي إسرائيل، ولا يشفي غليلها، ولا يصف المشهد كاملاً: هناك في غزة، حيث يقيم 2.2 مليون إنسان، مرضى عاديون، وأناس يحتاجون رعاية صحية منتظمة، هناك خمسة آلاف امرأة حامل في شهرها التاسع، لن يجدن مستشفى يلدن فيه، وهناك مئات الرضع الخدج في الحضانات مهددة حياتهم بالموت إذا انقطعت الكهرباء ساعة واحدة، ومئات من المصابين بالتلاسيميا، والهيموفيليا ممن يحتاجون نقل دم بشكل دوري، ومئات مصابون بالفشل الكلوي، وعليهم غسل كلاهم كل يومين، ومئات ممن لديهم متلازمة داون، ومتلازمة التوحد، ويحتاجون رعاية صحية معينة، وآلاف مصابون بالسرطان ويحتاجون جرعات كيماوي، وعشرات الآلاف من المصابين بأمراض الضغط والسكري وغيرها من الأمراض المزمنة، ويحتاجون أدويتهم بشكل يومي، وعشرات الآلاف من ذوي الإعاقة الذين يحتاجون رعاية صحية خاصة، وغيرهم وغيرهم.
باستثناء نصف مليون طفل يحتاجون جرعات محددة من التطعيم، وإلا سيكونون عرضة لأمراض خطيرة.. سيكون مجموع المرضى ومن يحتاجون رعاية طبية عاجلة نحو 300 ألف إنسان، وهي نسبة طبيعية بالمقارنة بتعداد السكان، كما هي في المجتمعات الأخرى الطبيعية، والمشكلة أن غزة لا تعيش ظرفاً طبيعياً، ليس الآن أثناء الحرب، بل قبل ذلك بست عشرة سنة، حيث ظروف الحصار والحروب المتتالية التي أنهكت القطاع، واستنزفت قدراته، وجعلته مكاناً غير صالح للحياة.. فما بالكم بظروفه الآن، بعد شهر من الحرب المدمرة، الموصوفة بالعنف غير المسبوق؟ كيف ستكون مصائر المرضى والجرحى في ظل انقطاع الكهرباء وخروج المستشفيات عن الخدمة، وعجزها عن مساعدتهم؟
عدد المستشفيات في غزة 58، بين حكومي وخاص، وصغير وكبير نسبياً، سعتها القصوى 2000 سرير، وهي الآن تضم أزيد من 25000 مريض وجريح، أي أضعاف قدرتها الاستيعابية، تعاني من نقص في كافة المعدات الطبية، ونقص في الأدوية، ونقص في الكادر الطبي، وتحصل على الكهرباء من خلال المولدات، التي تعاني نقصاً حاداً في الوقود، وقد خرج بالفعل عن الخدمة أزيد من عشر مستشفيات، بما فيها الأهم والأكبر مستشفى الشفاء.. وبسبب الاكتظاظ ونفاد مواد التعقيم والتطهير، وتواجد الآلاف من المرضى والجرحى وذويهم في أروقتها، تفشت فيها الأمراض المعدية، والتهبت الجراح، وصارت أي عملية حتى لو بسيطة محفوفة بخطر التلوث وبالتالي الموت.
سيكون مصير عشرات الآلاف من هؤلاء جميعاً الموت، إذا لم تتوقف الحرب فوراً، وما لم يحصلوا على أدويتهم وما يحتاجونه من رعاية صحية وطبية، وما لم تتدفق المساعدات الإغاثية والطبية والأدوية والوقود اللازم لتشغيل المستشفيات وغيرها من مستلزمات الحياة الإنسانية.. سيموت هؤلاء أو أغلبهم بصمت، سيسجَّلون كحالات وفاة طبيعية، سيموتون ظلماً وقهراً وكمداً.. وألماً.. ولن يجدوا من يغسلهم، ولن يبيتوا ليلتهم الأخيرة في الثلاجات ليأتي أحبتهم ليلقوا عليهم نظرة الوداع، وسيشيعهم بضعة أفراد فقط، على الأكثر لا يعرفونهم، وسيدفَنون في مقابر جماعية، وبعضهم دون اسم.
أوقفوا هذه الحرب اللعينة فوراً.. حرب الإبادة والتهجير.. الأهم هو إنقاذ هؤلاء الأبرياء قبل فوات الأوان.. وإنقاذ القطاع بأكمله من ويلات الحرب ونكباتها، ومن مستقبل مجهول ينتظره.