عن تفاعل السلطة مع الحرب على غزة

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب العدوانية على غزة، والناس تطرح أسئلة محيرة: أين جماهير الضفة؟ أين فتح؟ وأين السلطة؟.
وهي أسئلة مشروعة دون شك، لكنها قاسية، والإجابة عنها ليست هينة بالمرة؛ فليس أسهل على أي كاتب متملّق تبرير وتسويغ وفلسفة الأمر.. وليس أسهل على أي كاتب أيديولوجي أو حزبي له مواقف مسبقة كيل الاتهامات ضد السلطة ووصفها بالتخاذل والجبن والخيانة.. أو تحميل حماس مسؤولية "الكارثة" التي حلت بالشعب الفلسطيني.. وفي كل الحالات ستضيع الحقيقة، وسندخل في دوامة المناكفات والخطابات الشعبوية وتصفية الحسابات الحزبية.  
في محاولة للإجابة لنقسم الموضوع إلى أجزاء يمكن فهمها، ومن ثم الربط بينها، ولنبدأ بموقف السلطة الرسمي، والذي هو بلا شك موقف ضعيف ولم يرقَ إلى مستوى أهمية الحدث، وثمة غياب غير مفهوم للقيادة وتحديداً في الساحة الإعلامية، إذ كان يفترض أن يخرج الرئيس على الشعب بخطابات متتالية يعبر فيها عن موقف واضح وقوي، ويرفع معنوياتهم، ويتحدث بصوتهم، ويؤكد على مشروعية النضال الفلسطيني.  
وكان يُفترض أن تهتم القيادة بتمتين الجبهة الداخلية، وهذا يتطلب التواصل مع فصائل المقاومة وسائر القوى الفلسطينية للخروج بصيغة توحيدية، وأن تطلق سراح المعتقلين السياسيين، وأن تتوقف عن قمع المسيرات الشعبية، مهما كانت المسوغات.
حتى اجتماعات اللجنة التنفيذية وغيرها لم ترقَ إلى المستوى المطلوب، ولم تلبِّ طموح الجماهير، ولم تخرج بمبادرات سياسية أو بقرارات ميدانية.. ولا أحد يعرف ما هي قراراتها ونتائجها.
هذا الغياب خلق حالة سخط شعبي، خاصة أنّ مشاهد الحرب مفجعة ومؤلمة، وتجعل الناس في حالة ترقب وقلق، بأعصاب مشدودة، تصل أحياناً إلى مرحلة الهياج العاطفي..
ومع كل ما سبق، ومن باب الموضوعية والإنصاف، يجب التفكير بعقلانية والحديث بأمانة ورؤية الجانب الآخر في موقف السلطة.
بداية، وبالرجوع إلى الست عشرة سنة الماضية، أي الفترة التي سيطرت فيها حماس على غزة، وكانت حماس آنذاك تنفق كل الأموال التي تتدفق إلى خزينتها على تجهيز وتطوير بنيتها العسكرية كحفر الأنفاق وصناعة الصواريخ وغير ذلك.. وكانت السلطة تتولى كافة مصاريف قطاع غزة الأخرى (التعليم، الصحة، الكهرباء، البلديات، الجهاز الحكومي، الخدمات..إلخ)، وكانت تدفع رواتب عشرات آلاف الموظفين، وتساهم بنسبة كبيرة في التقليل من البطالة، وتتولى تقديم مساعدات نقدية للفئات الفقيرة والمهمشة..إلخ، وبالتالي كانت السلطة تعمل على إزاحة عبء كبير عن كاهل حماس، ما حال دون الانفجار الشعبي في وجهها، ومكّنها من المضي قدماً في مشروعها العسكري.
سواء كان ذلك دون قصد، أو لأن هذا واجبها ومسؤولياتها.. المهم أنها لم تتخلَّ عن غزة.. وهذا يشبه ولكن بصورة معاكسة الدور الذي كانت تقوم به إيران، حيث إنها أنفقت مئات ملايين الدولارات على تطوير قدرات حماس العسكرية، ولكنها لم تنفق فلساً واحداً على التعليم أو الصحة أو البنية التحتية، أو ما يدعم صمود الناس.
بمعنى آخر، إذا كانت إيران دعمت حماس بالسلاح والتدريب، فإن السلطة دعمتها بطريقة غير مباشرة وربما دون قصد بالإنفاق على أوجه الحياة ومرافقها المختلفة لسكان القطاع.. والأمران كانا ضروريين وشرطين مهمين لنجاح حماس وتمكينها.  
الأمر الثاني بعد اندلاع الحرب؛ حيث قامت السلطة بأدوار مهمة في المجالات السياسية والدبلوماسية والإعلامية لإيقاف الحرب، وإدانة الهجمات الإسرائيلية، والدفاع عن صورة المقاومة في المحافل الدولية، وللحيلولة دون إدانة حماس و"دعشنتها"، إضافة إلى ما قدمته وما ستقدمه من مرافعات قانونية أمام المحاكم الدولية.. أما الخدمات اللوجستية والإغاثية فهي جاهزة، وتسعى بكل جهدها لإيصالها، مع صعوبة ذلك، لدرجة أن الأمم المتحدة والصليب الأحمر ومنظمات دولية كبيرة ودولاً مستقلة كمصر وغيرها عجزت عن إدخال المواد الإغاثية إلا بالقدر الذي سمحت به إسرائيل.
وقد أعلنت السلطة بوضوح أن الأولوية لإيقاف الحرب، باعتبار ذلك مصلحة وطنية فلسطينية، ولذلك انصبت كل جهودها بهذا الاتجاه (وأهملت مسارات أخرى مهمة)، من منطلق تقديرها للموقف، بأنها حرب إبادة وتهجير، ستسعى إسرائيل من خلالها إلى إيجاد بيئة مناسبة لتنفيذ مخطط التهجير، والذي يتطلب قتل أكبر عدد ممكن من الناس، وإلحاق دمار هائل في المساكن والبنية التحتية وتحويل غزة إلى جحيم.. وبالتالي فإن كل يوم إضافي في الحرب سيعني مزيداً من الضحايا، ومزيداً من التدمير، وتزايد احتمالات تصفية المقاومة، وتنفيذ الترانسفير.
ومع ذلك لدى الجميع ملاحظات وانتقادات ولوم ونقمة على موقف السلطة، خاصة تجاه تقصيرها، أو عجزها، أو ضعف أدائها، وعدم التحامها بالشعب، وعدم ارتقاء موقفها السياسي إلى مستوى الحدث، وستدفع السلطة ثمن عدم وضوح موقفها أمام الشعب.
ولا شك في أنَّ من واجب السلطة حماية شعبها من هجمات المستوطنين (وهي أيضاً مسؤولية مشتركة)، أما مطالبتها بالانخراط في المعركة عسكرياً؛ ومهاجمة الأجهزة الأمنية أهدافاً إسرائيلية والدخول رسمياً في الحرب.. فهذا فوق طاقتها، وهو خيار غير واقعي ويدل على تفكير ساذج وغير مسؤول.. فقد سبق للسلطة أن خاضت مواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال (بلغت أوجها 2001 - 2003)، وأسفرت عن خسائر سياسية فادحة.
وفي هذه الحرب التي لم يسبق لعنفها مثيل، والمدعومة مباشرة من حلف الناتو، فإن أي مواجهة عسكرية من قبل السلطة (أو من غيرها) ستزيد من حدتها وشراستها أكثر مما نراه الآن، ولن تؤدي إلى القضاء على قدرات المقاومة، ولا تدمير السلطة وحسب، بل ستؤدي حتماً إلى تدمير الضفة، وتهجير أهلها إلى الأردن، وبالتالي تصفية القضية نهائياً.
وأصحاب هذا الطرح أغلبيتهم من خارج منطقة الصراع، آمنون في بيوتهم، ومرتاحون خلف شاشاتهم ويتابعون الأحداث وكأنها فيلم أكشن، وبعضهم لم يكتفِ بدمار غزة، وبأربعين ألف شهيد وجريح ومعاق.. يريدون مشهداً مماثلاً في الضفة.. حتى يتمكنوا من كتابة قصائد الرثاء ونشر الصور المثيرة عن شيء كان اسمه بطولات وتضحيات الشعب الفلسطيني.
سنناقش لاحقاً تفاعل فتح وجماهير الضفة مع الحرب.