تبقّى لنا الكثير.
في الحقيقة أنّ ما تبقّى لنا هو الأهمّ.
وما خسرناه حتى الآن ليس سوى بداية لم يكن ممكناً أن نَعبُرَ إلّا من خلالها.. وما خسرته إسرائيل ليس سوى بداية انكفائها، وأُفُول نجمها.
كلّ ما تقوم به إسرائيل من إجرام وجنون ليس سوى محاولة لكي تثبت لنفسها أنّها ما زالت قوية، وأنّها ما زالت قادرة، وأنّها ما زالت محميّة، وأنّ يدها "حُرّة وطليقة" لتمارس على شعبٍ بأكمله هواياتها المفضّلة التي تحوّلت إلى مهنةٍ دائمة، وإلى وظيفة روتينية، وإلى طقس معتاد، مع فارق أنّ إجرامها وجنونها هذه المرّة حصل على كلّ الأختام الرسميّة، وعلى كلّ المصادقات المطلوبة، وحصل، أيضاً، على كلّ الموافقات الضمنيّة والصريحة من أقارب آلاف الشهداء، وعشرات آلاف الجرحى، ومئات آلاف المشرّدين.
وقد أثبتت إسرائيل فعلاً أنّها دولة في منتهى القوّة وعلى أعلى درجات الضعف والهوان في نفس الوقت والأوان.
سيّرت إسرائيل مئات آلاف الجنود، ومئات الطائرات من كلّ الأنواع، واقتحمت قطاع غزّة بآلاف الدبّابات والمدرّعات والمصفّحات، ودمّرت البنايات على رؤوس ساكنيها، ومحت الأحياء والحارات، ومحت عائلات بأكملها، ولم تبقِ مدرسةً أو جامعاً أو كنيسةً أو مستشفى أو مؤسّسة إلّا ودمّرتها أو أعطبتها، وعلى مدى أكثر من أربعين يوماً متواصلاً دون أن تتمكّن حتى الآن من "تحرير" ولا حتى أسير واحد، ولم تتمكّن حتى الآن من إثبات قوتها ولو لمرّة واحدة سوى الفتك بالمدنيين.
إسرائيل تعيش حالة الصدمة المروّعة.
لقد تمّ كيّ الوعي الإسرائيلي بصورةٍ لم تكن تتصوّرها في أيّ يومٍ من الأيام، وهي تتصرّف الآن كالمذعور الهائج، وأحدثت الصدمة لها اختلالات من أعمق وأخطر الأنواع، لأنّ المتغطرس والأرعن، لا تفقده الصدمة توازنه الجسدي فقط، وإنّما تُفقده توازنه النفسي كليّاً، ويتحوّل في لحظةٍ معيّنة من تأثير الصدمة إلى قاتل يحتاج إلى أبشع أنواعه بحثاً عن "استعادة التوازن".
ماذا تبقّى لإسرائيل أن تفعل؟
أغلب الظنّ أنّ إسرائيل بقي لها القليل بعد أن فعلت كلّ ما فعلت، وبقي لديها من الوقت الأقلّ من القليل لأنّ الإجرام لم يجلب لها حتى الآن سوى خيبات الأمل.
وفي البعد النفسي هنا، أيضاً، فإنّ خبراء علم النفس الاجتماعي الذين يعملون في إطار المؤسّسة العسكرية والسياسية في إسرائيل يعملون ليل نهار فقط لإقناع "الجمهور" الإسرائيلي أنّ ثمة ردعاً قد تحقّق، وأن ثمة إخضاعاً هو قيد التحقُّق، وأنّ أحداً في هذا الإقليم كلّه لن يفكّر بإطلاق رصاصة واحدة على دولة الاحتلال، وأنّ الجمهور الإسرائيلي الذي دفع ثمناً غالياً في هذه الحرب سيجني مقابل هذا الثمن الكبير، الراحة والأمان والاطمئنان!
إذاً فإنّ إسرائيل "القوية" القادرة والمقتدرة لا ينقصها سوى بعض الوقت، لكي تُجهِز على شعبٍ بأكمله، ولكي يخضع هذا الشعب لإرادتها وشروطها، فقط هي تحتاج إلى المزيد من الوقت.
وما تبقّى لإسرائيل هو عشرات الآلاف فقط من القتلى، ومثلهم من الجرحى، ولعلّ الجوع والمرض يفتكان بعشرات آلاف آخرين، ولعلّ "الوقت" هو الذي سيتكفّل بإيصالهم إلى حالة اليأس، وإلى الإحباط، ثم إلى الخضوع والاستسلام.
هكذا تُوهِم إسرائيل نفسها، وهكذا تُخادِع جمهورها.
والحقيقة هي أنّها لن تجد من يقتنع بهذه الحالة "الهوليوودية" سوى بعض المعتوهين السياسيين من هوامش أمراض الأيديولوجيا المتقادمة.
وحتى الحثالات الاجتماعية المعتاشة على انبعاثات سرطانية من "اليمين" الشعبوي في بعض بلدان "الغرب" لم تعد تصدّق "الرواية" الإسرائيلية حول الأمن والأمان، وحول الرفاه والاطمئنان بعد نهاية هذه الحرب، وستتحدّث الأرقام عن هروب الإسرائيليين الآن وغداً.
سيكتشف هذا "الجمهور" أنّ دولة الاحتلال قويّة من حجم الدمار في غزّة، ومن الأعداد الهائلة للذين قضوا تحت الأنقاض، ومن حجم الدبّابات والمدرّعات التي تجرّها الشاحنات عائدة بها إلى تجّار الخُردة، ومن الأعداد الحقيقية لآلاف الجرحى الجُدُد، ومئات القتلى الجُدُد، ومن حجم الدمار الذي خلّفه القصف الفلسطيني واللبناني، ومن الخسائر الاقتصادية التي لن يتمكّن "الأنكل بايدن" أن يدفعها كلّها، أو أن يدفعها على الفور، وسيكتشف "الجمهور" أنّ إسرائيل احتاجت إلى أربعين يوماً في حربٍ همجية ومتوحّشة لعلّها تعيد له ولو أسيراً واحداً دون أن تتمكّن، وأنّها ستوافق على شروط المقاومة التامّة بالمبادلة، وفق معادلة: الطفل بالطفل، والمرأة بالمرأة، والمريض بالمريض، مقابل بعض الاحتياجات الإنسانية الملحّة، وليس على نفس المستوى من الأعداد.
وبهذا فإنّ إسرائيل القوية حتى الإجرام والإبادة الجماعية، هي على أبواب الموافقة على شروط المقاومة من اليوم الأوّل لهذه الحرب، والهدنة التي يجري تداولها ستجرّ إلى هدنة جديدة، فإلى ثالثة ورابعة، ليصار إلى وقفٍ شامل لإطلاق النار، دون أن يفهم هذا "الجمهور" ما هي النتائج الملموسة لهذه الحرب، وخصوصاً النتائج التي تتعلّق بالأمن والأمان والاطمئنان.
"الأنكل بايدن" هو، أيضاً، سيقول للشعب الأميركي أنه وقف إلى جانب إسرائيل (التي تدافع عن نفسها) ورفض وقف إطلاق النار لأن إسرائيل ما كانت "بعد" قد عرفت كيف تدافع عن نفسها، وأنّها ظلّت تحاول أن تدافع عن نفسها لأربعين يوماً، واحتاجت إلى أربعين يوماً جديداً، وقد تمكّنت في النهاية من الدفاع عن نفسها بعد قتل وجرح خمسين ألف فلسطيني، ودمّرت أكثر من 15% من القطاع تدميراً كلّياً، وبعد أن شرّدت أكثر من مليون ونصف المليون من "الجمهور" الفلسطيني المؤيّد لـ "حماس" والمذنب لأنّه يعيش في منطقة تسيطر عليها "حماس"!
وبما أنّ الجمهور الأميركي اكتشف أكاذيب العمّ "المُسنّ"، وبات يعرف أصل الحكاية وفصلها فإنّه سيسقط "العم بايدن" في الانتخابات، وسيخرجه من المولد من دون حمّص، حتى لا أقول مثل "مصيّفة الغور"!
أمّا ما تبقّى لنا فهو أن نتعلّم من هذه الحرب التي ما زالت تدور بكلّ قوة، فهو الأهم كما قلنا في بداية المقال.
علينا أن نتعلّم من جديد أنّ إسرائيل قوية لضعفنا، وضعيفة بقوتنا. ولكي نثبت أنّنا تعلّمنا فعلاً، فليس أمامنا اليوم، أو غداً بالأحرى أن نتعلّم قانون الوحدة، وقانون الوحدة في التحرُّر الوطني، وقانون الصراع على قوّة الأفكار في إطار هذه الوحدة، وليس قوانين الإقصاء والتغالب، وقوانين الفرقة وفنون الانقسام.
وعلينا أن نتعلّم من جديد (بدءاً من راس رُوس) أنّ المقاومة هي حالة وطنية شاملة، وطريقة للعيش، وليس هبّات موسميّة، وليس سلاحاً ضدّ السياسة، وسياسة ضدّ السلاح.
وعلينا أن نتعلّم أنّ وحدة الإرادة لا تعني شيئاً إذا غابت وحدة القرار، وأنّ وجود نظام سياسي ديمقراطي فلسطيني هو أولوية مُلحّة ليس للتباهي و"التصدير" بقدر ما هو احتياج حيوي للبقاء والصمود والانتصار.
وعلينا أن نتعلّم أخيراً أنّ الخير كلّ الخير موجود في شعوب أُمّتنا، وفي شعوب العالم، وأنّ "الغرب" القبيح يُعاني من أمراض الشيخوخة السياسية، وربما الأُفُول الثقافي، وأنّ العالم الجديد لن يتّسع كثيراً للظلم المريض الذي يمثّله هذا "الغرب".