لا تنعدم في وسائل الإعلام الإسرائيلية أصواتٌ يحتاجها الجمهور العريض لقراءة الوضع كما هو عليه، وليس ضمن إكراهات التضليل الإعلامي الذي يسجّل هذه الأيام حضوره الأقوى. وما تقوله هذه الأصوات فيه من الصدق أحيانًا كثيرة ما يصلُح لأن يكون مرجعًا لتأطير ما يحدُث، بل وحتى استشراف إحالاته.
ومن المؤكّد أنه سيحين وقتٌ تُجرى فيه مقارنة نهائية بين ما ادّعت إسرائيل تحقيقه من نتائج لحربها على قطاع غزّة، سيما إثر بدء مناورتها البرّية يوم 27/10/2023، وما تحقّق فعلًا في الميدان، وبما يخدم تطبيق غاياتها القصوى من الحرب، والتي وقفت في مقدمتها غاية القضاء على قدرات حركة حماس العسكرية والسلطوية. ولكن قبل ذلك، وتحديدًا بعد مضي أكثر من أسبوعين على تلك المناورة البريّة، نحا محلّلون عسكريون إسرائيليون نحو إقامة حدّ فاصل بين لغة الساسة الإسرائيليين التي وُصفت بأنها بلاغيّة هجوميّة ولغة القادة العسكريين، وخصوصًا السابقين التي قالوا إنها تنطوي على قدرٍ من المهنيّة.
ويضيق المجال لتقديم نماذج كثيرة آخذة بالتراكم يوميًا، ولذا سنكتفي ببعضها القليل. وأول ما ينبغي ملاحظته، ونحن نفعل ذلك، عدم وجود تفاوت كبير بين مختلف المحللين العسكريين والمختصين في الشؤون الأمنية في استخلاص أن مصير الحرب غير مرهون فقط بما يقوم به الجيش الإسرائيلي من عملياتٍ عسكريةٍ من الجو والبر والبحر، إنما أيضًا بما تقوم به المقاومة الفلسطينية الآن، وبما تختزنه من قدراتٍ في المستقبل كذلك.
ويقرّ المحلل العسكري لصحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، بأن التغطية الجزئية التي تقوم بها إسرائيل الرسمية، بما في ذلك من خلال وسائل إعلامها الخاضعة لرقابة عسكرية صارمة، وضبابية المعارك التي تفرض عزل القطاع عن وسائل الإعلام من الجانب الفلسطيني، تضعان صعوباتٍ جمّة في طريق الحصول على صورة كاملة للوضع الميداني في شمال القطاع. ومع أنه يشير إلى إيثار التعامل مع بيانات الجيش وقيادته، لكونها مهنية وموضوعية برأيه، إلا أنه، في الوقت عينه، يؤكّد أن هدف الحرب الذي يُشهره الجيش، على لسان رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال هرتسي هليفي، وهو تفكيك قدرات "حماس" مع محاذرة توزيع الوعود بشأن محو قوتها العسكرية، طموح للغاية، فضلًا عن أن القدرة على تحقيقه تظل مشروطة بثلاثة أمور: استخدام قوة عسكرية فعالة، وتخصيص فترة طويلة بما فيه الكفاية، والقدرة على معالجة مناطق جنوب القطاع أيضًا، حيث إن إمكان المسّ بحماس ضئيل نسبيًا في أعقاب انتقال السكّان المدنيين إليها.
ويؤكّد المحلل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشواع، أن الطريق إلى "إنجاز القضاء على معاقل حماس في شمال القطاع" ما زالت طويلة وليست سهلة بتاتًا، فما بالك بجنوبه؟... وهو ما يكرّره المحلل العسكري لصحيفة معاريف، طال ليف- رام، مشيرًا، كما غيرُه، وخصوصًا من أوساط الجنرالات في الاحتياط، إلى أنه حتى في حال النجاح في الوصول إلى ذلك "الإنجاز" فسيكون بمثابة نصف العمل المطلوب أو ربما أقلّه، في ضوء التقدير الموجود لدى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية أن نصف قوات "حماس" موجود في الجزء الجنوبي من القطاع ويسيطر عليها. وهذه القوات لم تتعرض للهجوم إلا نادرًا، لذلك هي تحافظ على قدرتها وروحها القتالية. وينطبق هذا على قيادة الحركة. وفي هذا الصدد، يُشار إلى ثلاثة تحديات ماثلة: الضغط الدولي، وعندما ستعمل إسرائيل في جنوب غزّة، سيكون هناك نحو مليوني إنسان، هم مجموع سكان الجنوب الذين ليس لديهم مكان يذهبون إليه، و900 ألف نسمة من سكان شمال القطاع، وعامل الوقت، فما دام القتال مستمرّا، ستتواصل النار في الشمال أيضًا، وفي المنطقتين، ولا يمكن البدء بالحديث عن عودة السكّان.
ويصل هذا المحلّل إلى بيت القصيد، حينما يصف المناورة البرّية الإسرائيلية بأنها سيزيفية. وغالبًا، تعادل السيزيفية العبثية، وعادةً توصف بها المهمّات الشاقّة وغير المُجدِية.