لم يمر وقت طويل على بدء عدوان حكومة الحرب على غزة ، وما رافقها من بروباغندا لشيطنة القطاع المحاصر بشكل خانق منذ ما يزيد عن عقدين تحوّل خلالها تدريجياً لأكبر سجن في العالم، حتى بدأت أكاذيب نتانياهو تتساقط واحدة تلو الأخرى . رغم وحشية وهمجية حرب الانتقام والابادة ضد أهلنا في غزة، فقد تميزت في بدايتها بالتعتيم المطلق والتضليل الفاضح للجرائم التي يرتكبها "سلاح الجو الاسرائيلي" بصورة عشوائية على مساكن المدنيين الآمنة والمستشفيات ومجمل البني التحتية المدنية. وبخلاف الحروب السابقة، والتي كانت تحظى بحضور مكثف لوسائل الاعلام الأجنبية داخل القطاع، فهذه الحرب كان حضور هذه الوسائل شبه منعدم . من الواضح أن ذلك يأتي في سياق خطة اسرائيلية تسعى إلى هيمنة روايتها على الرأي العام الدولي ، وقد ساهم الانحياز الفاضح لزعماء الغرب للموقف الاسرائيلي، و انخراطهم المتهافت في ترويج الرواية الكاذبة لنتانياهو ومستشاريه ووزير حربه في محاولة لتبرير ما يخططون له من ارتكاب جرائم ابادة وتطهير عرقي ضد مليوني وثلاثمائة من المدنيين الابرياء .
اليوم، ومع قرب دخول الحرب شهرها الثالث يتبين فشل نتانياهو وعصابته من تحقيق أي من الأهداف العسكرية أو السياسية المعلنة سواء لجهة اجتثاث حركة حماس أو تدمير قدرتها أو استعادة أيٍ من محتجزيه المدنيين و جنوده الأسرى بالقوة العسكرية. فكل ما حققه هو ارتكاب جرائم الابادة الجماعية من خلال تنفيذ مئات المجازر بقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، والتي حصدت أرواح آلاف العائلات بأكملها، سيما من الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى، وتحويل المستشفيات والمراكز الصحية ومراكز الايواء في المدارس وسيارات الاسعاف والكوادر الطبية لأهداف هذه الحرب الاجرامية.
رغم محاولات التعتيم على هذه المذابح وجرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية، إلا أن حجمها وبشاعتها أجبرت الاعلام الدولي، حفاظاً على بعضٍ من ماء وجهه، أن يبدأ في نقل الرواية الفلسطينية، وإن بصورة مجتزأة، إلا أن نجاح النشطاء والمؤثرين الفلسطينيين بفعل الصورة الحقيقية التي تمكَّن الصحفيون الغزِّيون الأبطال، ومعهم المواطنون الصحفيون من نقلها، لعب دوراً حاسماً في كسر هذا التعتيم المخزي ، وعادت الرواية الفلسطينية والصور الواقعية تنتشر وتصل إلى المؤثرين والمتضامنين المنحازين لقيم العدالة الانسانية والمعايير الأخلاقية وحقوق الانسان في سائر أرجاء وأصقاع الكون. الاعلام الالكتروني و بالرغم من المحاولات التي ما تزال مستمرة لتقييده والحد من انتشار الصورة الفلسطينية، فقد نجح في كسر احتكار حكومة الحرب وحلفائها في الهيمنة على الرأي العام، وكما نجحت الانتفاضة الأولى من دخول كل بيت في العالم واظهار حقيقة النضال العادل للشعب الفلسطيني، فإن الصورة والرواية وجذور الصراع وعدالة القضية الفلسطينية عادت لتحتل مكانتها التي تستحق في الضمير الكوني، الأمر الذي بات يحدث تحولات ملموسة في الرأي العام، وبداية تغيُّر ، وإن كان بطيئاً، لدى صناع القرار الدولي، الذين باتوا يشعرون بتضرر مصالحهم وكذلك يأسهم من امكانية حسم اسرائيل لأي من أهدافها غير الواضحة لهذه الحرب .
انتصار الدم على السيف
إن الانتفاضة الكونية التي عمت وتعم عواصم الدول الكبرى ومدنها الرئيسية، تؤكد مقولة "انتصار الدم والعدالة على السيف والطغيان". فقد تمكن الصمود الفلسطيني في الميدان، ورغم قساوة الألم وغزارة الدم وهمجية الدمار من إزالة الغشاوة التي سبق ونجحت حكومة تل أبيب وحلفاؤها من تعمية حقيقة الصراع وعدالة قضية الشعب الفلسطيني. فاصرار عصابة الحرب على جنونها وهمجيتها لاجتثاث مقومات الحياة في قطاع غزة تمهيداً للتطهير العرقي المتدرج، دفعها وبعد أن قطعت الماء والكهرباء والأدوية والوقود والغذاء، ركزت حربها الهمجية على المستشفيات والمراكز والكوادر الصحية في القطاع وخاصة مدينة غزة وشمالها، غير آبهة بالقانون الدولي والقانون الدولي الانساني.
أطباء غزة.. أبطال الحياة
في معركتها الدموية على عنوان ومراكز الحياة والمستشفيات، برز الوجه الانساني وعدالة الحق بالحياة التي خاضها أطباء غزة والكوادر الطبية الأبطال، والذين رغم انقطاع الكهرباء وانعدام المواد الطبية اللازمة لبلسمة جراح الأطفال والنساء والمدنيين الذين أثخنتهم صواريخ ومدفعية ودبابات جيش الاحتلال ، فقد أبدى هؤلاء الملائكة الأبطال أقصى درجات الولاء لمهمتهم الانسانية وانتمائهم الوطني لشعب مصمم على الحياة وكم يستحقها. فقد رفض جميعهم ترك مرضاهم والأطفال الخدج رغم كل أشكال الموت والبطش التي تعرضوا لها، وظلوا مصرين، حتى بعد أن حول الغزاة المشافي إلى مقابر جماعية، على عدم المغادرة إلا بمرافقة مرضاهم . هذه واحدة من معارك العدالة الانسانية في مواجهة جحيم الظلم والموت وأبطالها هم الأطباء والممرضون، ومعهم وقبلهم الجرحى والمرضي الذين فارق العديد منهم الحياة دون أن ينال العلاج الذي كان من الممكن أن ينقذهم . هؤلاء الأبطال يستحقون أوسمة الوطن والشعب، فكيف اذا كنا نعلم ان هؤلاء وبدلاً من الأوسمة التي يستحقونها، فإن معظمهم يعاني من سريان ما بات يعرف بالتقاعد المالي الجائر وغير القانوني الذي تمارسه سلطتهم الفلسطينية بصورة تعسفية ضدهم . كيف لحكومة أن تدعي شرعية المسؤولية، في وقت تستمر فيه بتنفيذ "العقوبات الادارية والمالية" على هؤلاء الابطال؟! هذه الفضيحة يجب أن تنتهي فوراً على جميع موظفي القطاع مصحوبة باعتذار واعادة حقوقهم المالية والمعنوية المسلوبة.
ماذا بعد ؟
ما قبل هذه الحرب لن يكون كما بعده، فجذور الصراع باتت تحظى باهتمام كوني تقوده الانتفاضات الشعبية العالمية ضد الظلم والاحتلال، وبات العالم بأسره يدرك تماماً أن الأمن والاستقرار لن يتحقق سوى بإنهاء الاحتلال، كما بات الرأي يدرك ألاعيب ومراوغة حكومات الاحتلال بمحاولات القفز أو الالتفاف على الحقوق الفلسطينية عبر متاهة تسوية أوسلو أو التطبيع مع المحيط العربي.
هذا بالاضافة، وهو الأهم، أن الشعب الفلسطيني الذي اكتوى من ويلات الحروب والاحتلال وفشل تسوية أوسلو التي أعادت تنظيم الاحتلال، وأفرزت متحكمين بالمصير الوطني في عزلة تامة عن نبض ومصالح الأغلبية الساحقة في المجتمع الفلسطيني، بات اليوم وأكثر من أي وقت موحداً ومتمسكاً بحقوقه الوطنية، وفي مقدمتها حقه في الحرية والعودة و تقرير المصير وتجسيد سيادته على أرض وطنه، وأن انجاز هذه الاهداف الوطنية السامية،التي قدم من أجل تحقيقها ومازال يقدم أغلى التضحيات، لا يمكن انتزاعها إلا بارتقاء جميع الأطراف للمصالح الوطنية العليا للشعب ولمستوى التضحيات التي يقدمها، وما يتطلبه ذلك من استنهاض القدرة الجمعية لشعبنا باعادة بناء مؤسسات الوطنية الجامعة على صعيد منظمة التحرير التي يجب أن تضم الجميع ، وسلطة تسهر باخلاص على رعاية مصالح شعبنا، وترسيخ العدالة وأسس المواطنة لكل أبناء فلسطين دون تمييز فئوي أو جغرافي ، تمهيداً لاعادة حق شعبنا بانتخاب مؤسساته وقيادته بصورة ديمقراطية نزيهة وشفافة، وارساء قانون الوحدة وادارة الخلاف بعيداً عن التفرد والاقصاء واحتكار الصواب، والاحتكام لارادة الشعب وبوصلة الأهداف والمصالح الوطنية العليا.