تبدو السياسة الأميركية مدعاة للرثاء مما فعلته بنفسها من انكشاف فاضح خلال هذه الحرب، ساد اعتقاد أن الخفة الترامبية في السياسة الأميركية غادرت مع ساكن البيت الأبيض السابق صاحب صفقة القرن العقارية باعتبار أن حصيلة وعيه السياسية عائدة من سوق المضاربات والصفقات، لكنها لم تتغير كثيراً وإن اختلف الشكل مع مجيء الساكن الجديد للبيت الأبيض.
تظهر الخفة أكثر لمن يتابع السياسة الخارجية ومسار الحرب من وزير خارجية يهبط في إسرائيل معلناً يهوديته، ثم يقيم بازاراً لسكان قطاع غزة ويجس نبض الترحيل ليتحول إلى الحريص على تقديم رؤية سياسية عنوانها حق الفلسطينيين بدولة، وما بينهما من تلعثم جسد الرئيس العجوز الذي جاء ليقود مجلس الحرب إلى الرجل الذي يريد وقفها بقناعة جديدة، تلك فهلوة السياسة المدعاة للحزن.
هكذا هي الدول حين تصاب بالهرم يضعف نظرها وتتشوش لديها الرؤية. يبدو أنه ليس فقط رئيسها هو الهرم بل أيضاً سياستها تشبه عنوانها السياسي، فالتاريخ لن يغفر للإدارة الاميركية مسؤوليتها عن الإبادة التي حدثت في غزة. وهكذا تنضم مأساة غزة إلى مأساة هيروشيما ونجازاكي، وإذا كانت الثانية بفعل أميركي مباشر فالأولى تمت بغطاء أميركي مباشر.
ليس المهم هنا إدانة أميركا لأنها فوق القانون ولا علاقة للمحاكم بها وبنفوذها، لكن المهم هو التلعثم الذي بات يصيب السياسة التي باتت تنكشف ويبدو أن من الصعب الثقة بقدرتها على الاستمرار بإدارة العالم، هكذا يحدث للأفراد عندما يشيخون يتم تنحيتهم، ولكن من يملك قرار تنحية السياسة الأميركية التي باتت تقف وراء كل الموت المنتشر في العقود الثلاثة الأخيرة بلا منافس؟
تخشى أميركا على صورتها في العالم العربي، أرأيتم أكثر فهلوة من هذا؟ الرئيس يتراجع عن قصة قتل الأطفال ..! الرئيس يتراجع عن التشكيك بعدد من تقتلهم اسرائيل ...! هل كان يمزح؟ ألهذا السبب كان يعطي لإسرائيل ضوءاً أخضر ظناً أن القتل متواضع؟ أهذا رئيس دولة عظمى لديه أقوى جهاز استخباري في العالم أم رئيس دولة هرمة؟
الإمبراطوريات في طريق النزول أكثر عنفاً من طريق الصعود، هكذا قال محمد حسنين هيكل، ويمكن أن يضاف عليها وأكثر غباء أيضاً. ومن يراقب السياسة الأميركية ورشاقتها في خمسينات وستينات قرنها الماضي ويقارن مع عصرها الحالي «عصر الترامبية - البايدنية» يدرك حجم الانحدار الذي أصابها.
ترسل الولايات المتحدة وليام بيرنز مدير مخابراتها على عجل لمحاولة وقف الحرب والحصول على اتفاق ينهي هذه الأزمة التي لم تهز صورتها في الخارج كدولة دعمت كل هذه الإبادة، للحفاظ على ماء الوجه في الداخل الاميركي ومحاولة استرضاء الجاليات العربية والإسلامية ونقمة الجالية الفلسطينية التي تنتظر يوم الانتقام الكبير لتصفي حساباً انفتح مع من قام بتشريع دم شعبها، فلا يمكن لبايدن أن يغسل الزيت الذي دهنه على رأس مجلس الحرب مبكراً.
وعلى الجانب الآخر تقف إسرائيل التي بدت هشة كما لم تبدُ من قبل. فقد مثل السابع من أكتوبر ذروة الانكشافات مجتمعة لتضيف إليها عمليات القتل في غزة انكشافاً أخلاقياً، وعدم قدرتها على وقف الحرب لأن في ذلك ما يعني إعلان الهزيمة كما يقول أفيغدور ليبرمان وهو يوصّف واقع دولة آخذة بالضعف، وليست قادرة على الانتصار أو على الأقل تحقيق أي من الأهداف التي رفعتها، رغم كثافة النار وأسطول الإمداد الأميركي بالصواريخ وكل ما وفرته من مواد للموت.
خرجت إسرائيل للحرب باحثة عن انتصار يرمم جرحاً أصاب روحها وأصابها برجة عنيفة أفقدتها توازنها، وهي غير مدركة لحركة التاريخ العاصفة وجريان الماء في وديانه والحجارة الفلسطينية التي لا تجرفها السيول، فالقتل الجماعي لا يصنع انتصارات والإبادة لا تضمن تفوقاً لمحتكر القوة. فهل يمكن للذاكرة الإنسانية أن تمسح تلك الصور الدامية لأطفال ونساء غزة، وإذا كانت اسرائيل تعيب على حماس كمنظمة غير شرعية فإنها تقدم نفسها كجزء من العالم الحضاري فبئس هذا العالم، قامت حماس بفعلها المختلَف عليه حتى فلسطينياً، ولكن أن يتجند العالم لتغطية إسرائيل بعملية بهذا الشكل تلك أكبر تعرية لهذا العالم أعفت المظلومين وكُتّابهم من الحديث كثيراً لإقناع المقهورين بحقيقة ازدواجية المعايير.
في الحروب فاقعة الظلم وفي الانكشاف الفاضح لغياب العدالة، وفي ظل تسليم مقاليد العالم لدولة باتت تمارس السياسة بإمعان في زيادة الظلم، وفي ظل إطلاق يد دولة تمارس الانتقام وفق عصور الظلام أو العصر الحجري كما يقول مسؤولوها، وهم يهددون خصومهم وفي عصر إبادة العائلات بجنون لا يستطيع أحد وقفه، لا يكون هناك مجال للحديث ولا للكلام ولا للكتابة عن القيم والأخلاق والشرعية، لأن الشرعية مع المسلح يطيح بكل قيمها ويصفعها كل صباح، إسرائيل لا تلاحق حماس، فقد قتلت كل الناس وكل العائلات، فهي لا تشن حرباً عسكرية بل حرب إبادة وسحق للبشر، وفي طريقها تحول هذا العالم إلى حالة ساخرة تجسد صورة سخريتها الولايات المتحدة.