ما زال سياق الوقائع والأحداث الميدانية للحرب الإسرائيلية متواصلاً منذ ثلاثة أشهر على قطاع غزة، وما زال يسير وفق نسق يكاد يكون واحداً لا يتغير، أهم سماته القصف العشوائي المتعدد الجوي والبري والبحري الإسرائيلي الذي يستهدف المدنيين ليوقع في صفوفهم الضحايا بالمئات، والدليل أن آلة القتل الإسرائيلية ما زالت تسقط يومياً ما يقارب 300 شهيد، إضافة لمئات الجرحى، أي أن الحرب الإسرائيلية لم تحقق سوى القتل في صفوف المدنيين، بحيث سقط أكثر من 22 ألف شهيد حتى الآن، وما يقارب من 60 ألف جريح، مع دمار هائل في المباني السكينة التي يعيش فيها المواطنون، ولأن هذا الواقع يلحق الضرر البالغ بصورة الجيش الإسرائيلي، بما أنه لا يحقق أي نصر أو هدف عسكري محدد، بغض النظر عن أنه أيضاً تلحق به خسائر بشرية يومية، وكل ذلك من أجل أن يبقى بنيامين نتنياهو وجوقة الإرهاب العنصري في سدة الحكم.
خارج هذا السياق العسكري، فجأة وفي يوم واحد، أدلى ثلاثة من قادة الحرب السياسيين، بتصريحات بدت أنها متباينة، لكنها في حقيقة الأمر كانت تكمل بعضها، وفي تقديرنا بأن تلك التصريحات جاءت بعد أن طفح الكيل بالجيش، تجاه القيادة السياسية، التي ما زالت تزج به في حرب لا يعرف إلى أين تذهب به، ولهذا فقد طالب الجيش قبل أيام من القيادة السياسية أن توضح له الهدف السياسي والأهداف العسكرية المحددة من هذه الحرب، حتى يقف على أبعادها، وحتى يحدد الطريق الممكن والواجب اتباعه لتحقيقها، وذلك فيما يبدو لأن الجيش وهو يراجع يومياً تخبط جنوده، أدرك بأن التخبط السياسي، ليس فقط فيما يخص تحديد الهدف الواقعي والممكن تحقيقه من الحرب، كذلك الأوامر الميدانية، حيث ما زال كابينت الحرب يتعامل مع الجيش ليس كمؤسسة مهنية، ولكن كأداة لتنفيذ ما يلقيه عليه من أوامر، هما سبب الفشل.
وبعد أن كان نتنياهو ومعه بتسئليل سموتريتش وحتى ايلي كوهين وزير الخارجية يرفضون الحديث عن غزة ما بعد الحرب، وذلك تجنباً للخلاف مع واشنطن في هذا الصدد، خاصة فيما يخص دور السلطة الفلسطينية، حيث قالت واشنطن بوضوح بعودة السلطة الفلسطينية لإدارة غزة، فيما عارض ذلك بشدة ومن حيث المبدأ نتنياهو، وفيما يخص ما تفكر فيه إسرائيل إن كان من سيطرة أمنية، أو إقامة مناطق أمنية، أو قضم أجزاء من مساحة قطاع غزة الضيقة أصلاً، إن كان من الشمال أو الشرق، فجأة وعي حين غزة، أدلى ثالوث القيادة السياسية الإسرائيلية، أي رئيس الحكومة ووزير الخارجية ووزير المالية، بتصريحات، لها علاقة بهذا الأمر، وكان القاسم المشترك لما قالوه يشي بأمرين أولهما، أن قادة إسرائيل يبدون كما لو كانوا في كوكب آخر غير الكرة الأرضية، لا يرون أحداً آخر سواهم، فهم أخذوا يفصّلون قطاع غزة، كما يحلو لهم، متجاهلين ليس فقط نتيجة الحرب، التي قد لا تكون كما يرغبون، بل يتجاهلون أيضاً كل الآخرين، الفلسطينيين، وكل العالم بما فيه الأميركيون أيضاً.
ينسى قادة إسرائيل بأن الشعب الفلسطيني يقاوم احتلالهم ويقاتلهم منذ 57 سنة، لأن من حقه أن يعيش حراً، دون وصاية من أحد، خاصة إسرائيل، ويتجاهلون كل العالم، الذي يطالب منذ أكثر من شهرين بوقف فوري للحرب، وحتى أميركا نفسها، طالبتهم مراراً وتكراراً بتجنب قتل المدنيين وإدخال المساعدات، والدفع قدماً بتفاهمات تؤدي إلى الإفراج عن المختطفين لدى «حماس» والأسرى لدى إسرائيل، ومنذ اليوم الأول طالبتهم وما زالت بعدم توسيع الحرب، أي بعدم التحرش لا بحزب الله ولا بغيره، أما الآخرون ممن هم غير أميركا، فإن إسرائيل تتجاهل العالم كله، وما زالت تصر على تجاهل المصالح والمواقف المصرية والأردنية التي لها علاقة بملف التهجير، بما في ذلك ارتكاب المجازر اليومية لتحقيق هدف تحويل قطاع غزة إلى منطقة فارغة من السكان، حيث تضعهم إسرائيل أمام خيار الموت أو الهجرة، وهذا ما قاله أول من أمس بصريح العبارة الإرهابي سموتريتش، حيث قال بأنه يمكن الحديث عن غزة ما بعد الحرب حين يكون فيها مئة أو مائتي ألف مواطن، أي باختصار أقل من 10% من سكانها الحاليين.
أما نتنياهو فبكل صفاقة ما زال يتحدث قائلاً بأن الحرب ستستمر لشهور قادمة، وأن السيطرة الأمنية ستكون بيد إسرائيل، بل وأن إسرائيل ستعود لاحتلال ممر فيلادلفيا، أي ستقْدم إسرائيل على اختراق اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وأصر نتنياهو ليس فقط على مواصلة الحرب بالضد من الإرادة والرغبة الدولية، بل وتجاهل بشكل صريح العالم، قائلاً بأنه يتعرض لضغوط دولية، يقصد على الأغلب الضغوط الأميركية لكنه يتجاهلها، وسيمضي قدماً في طريق الحرب، وتحدى المساءلة الدولية المتوقعة في محكمة العدل الدولية في لاهاي بناء على الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا.
أما وزير الخارجية إيلي كوهين، وفي يومه الأخير كوزير خارجية قبل أن يتولى مسؤولية وزارة الطاقة، فقد بدا أقل دراماتيكية فيما قاله أول أمس، من شريكيه في المسؤولية عن قرار الحرب وطبيعتها، فهو أكد ما يقول به نتنياهو منذ وقت، بأن إسرائيل تسعى للسيطرة الأمنية على قطاع غزة، بحيث يكون بإمكانها أن تنفذ أي عملية عسكرية بأي وقت تشاء، وزاد على ذلك قائلاً، بأن إسرائيل لن تسمح بإدخال أي شيء، ولم يستبعد عودة الاستيطان الإسرائيلي إلى غزة، حيث قال إنه ليس أوانه فقط، كما أكد على رفض عودة السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، وكشف كوهين عن الخطة الإسرائيلية بربط غزة بقبرص، وهي الخطة التي تهدف إلى جعل عملية التهجير الجماعي ممكنة، ما دامت مصر قد منعت حدوثها عبر معبر رفح، بغض النظر عن وجهة إقامة المهجرين، سيناء أو غيرها، وقال بالحرف إنه زار قبرص وأنهى كل الترتيبات الخاصة بما اتفقت عليه إسرائيل مع قبرص حول ما يسمى «الممر الإنساني»، مشيراً إلى أن هناك سفناً بريطانية وفرنسية، هولندية ويونانية يمكنها أن تنزل معداتها دون الحاجة إلى ميناء في غزة.
إن إصرار نتنياهو على الاحتفاظ بمجوعة الإرهاب العنصري في حكومته، حتى وهو يواجه العزلة مع الجيش، وحتى بعد أن رفض وزير الجيش يوآف غالانت والوزير في مجلس الحرب بيني غانتس الخروج معه في المؤتمر الصحافي قبل أيام، على ما يصفه المصريون بالجمود، والإصرار على إطالة أمد الحرب، واتضح ذلك من خلال المفاوضات بالرعاية المصرية، حول تبادل الأسرى، والتي ظهرت في المبادرة المصرية مؤخراً، هو صورة إسرائيل في أبشع ما تكون عليه دولة في القرن الحادي والعشرين، ولكل هذا فإننا نعتقد بأن المنطق يفرض على جميع العالم مناقشة مستقبل إسرائيل وليس قطاع غزة بعد الحرب، ذلك أن إسرائيل بقيادة نتنياهو خلال العام 2023 المنصرم لتوّه، ظهرت كدولة متطرفة جداً، عنصرية وإرهابية، ارتكبت جرائم الحرب بكل صراحة ووضوح، ووقفت معزولة عن العالم كله، وهي بذلك تحتاج إلى معالجة دولية، قبل أن تقوم بزج الشرق الأوسط وربما العالم كله في أتون حرب مدمرة.
وإسرائيل بعد الحرب يجب أن تكون بدون نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وغالانت وكوهين، وكل من شارك في جرائم الحرب، كما يجب أن يتم إجبارها على الخضوع للقانون الدولي، وتنفيذ القرارات الدولية، بإنهاء الاحتلال وتفكيك الاستيطان، والتوقف عن القتل والتطاول على الآخرين شعوباً ودولاً، ولا بد من إخضاع برنامج إسرائيل النووي للرقابة الدولية، وكذلك ملاحقة كل من تورط في ارتكاب جرائم الحرب، حتى يهدأ هذا السُّعار، سعار الكراهية وشهوة القتل، في داخل إسرائيل نفسها، وإسرائيل التي بعد الحرب ستجد بأن تطبيع علاقاتها مع المحيط العربي/الإسرائيلي ما هو إلا أضغاث أحلام، وأن تنظيفها من هوس الإجرام المتفشي في داخلها، له طريق واحد وهو تفكيك الاستيطان وإنهاء الاحتلال لكامل أرض دولة فلسطين، قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، ومن ثم يجب أن يفرض عليها تعليم أطفالها مبدأ المساواة في الحياة بين شعوب المنطقة وبين البشر عموماً.