العاروري... وتكنولوجيا القتل

image_processing20230405-280474-uv4yr9.jpeg
حجم الخط

بقلم نبيل عمرو

عندما اختار صالح العاروري أن يسير على الدرب الذي يتحول فيه الإنسان مشروع شهيد، كان قرّر مصيره.

اعتقالاً طويلاً داخل الوطن، أو استشهاداً في أي مكان تقوده حربه إليه.

هُدد بالقتل في تركيا مع أنه كان يتمتع بحماية معقولة إلا أنها لا تصل إلى حد ضمانة أكيدة بألا يقتل.

وكان على مهداف المسيّرات حين استقر في بيروت ليس لاجئاً سياسياً ولا هارباً من الموت، بل كقائد لجبهة آلمت إسرائيل كثيراً، فأصدرت حكماً بالإعدام عليه، لم يخلُ الأمر من محاولات حثيثة تم الإقدام عليها إلى أن ظفرت به، في المكان الذي سويت فيه بنايات بالأرض حين كان يشتبه بوجود ياسر عرفات فيها.

وفي المكان ذاته الذي قُتل فيه الثلاثة البررة كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، حين سُيرت إليهم قوة ضخمة، ولولا حذر ياسر عرفات الذي لازمه طيلة حياته لكان رابعهم.

وفي بيروت عاصمة الاغتيالات في الشرق الأوسط، ظلت المتفجرات الإسرائيلية وكواتم الصوت وطائرات الاستكشاف والقصف تعمل بلا توقف، تلاحق قادة وكوادر ومن ضمنهم نجم النجوم الشهيد بن الشهيد علي حسن سلامة حتى قيل في تلك الحقبة، أنت فلسطيني إذن فإن اسمك مطبوع على رصاصة أو قنبلة أو قذيفة.

نحن في زمن ازدهار تكنولوجيا القتل، التي تفوقت فيها إسرائيل على كل قتلة العصر، واخترعت لكل آدمي وسيلة قتله.

للطفل حتى لو كان جنيناً في بطن أمه... موت.

وللأم حتى لو كانت مرضعاً... موت.

ولطالب المدرسة والجامعة وأساتذته... موت.

ولكل آدمي ذي مهنة أو حامل قلم أو حتى عابر سبيل... صُمم موت.

وفي زمن ازدهار تكنولوجيا القتل، ألغت المسيّرات وفوهات المسدسات الصريحة أو المكتومة الصوت المسافات، فحيث يوجد الفلسطيني تُسخّر كل الوسائل للوصول إليه، روما... باريس... نيقوسيا... مالطا... تونس.

تتحد استخبارات العالم جميعاً عليه، تتبادل المعلومات عنه، تحصي أنفاسه في فراش النوم، تصوره على باب المكتبة التي يرتادها ووسيلة النقل التي يستخدمها، ومن أجل القتل سُيّر جسر جوي من قاعدة عسكرية في ضواحي تل أبيب لتقطع ثلاثة آلاف ميل مع تزود جوي بالوقود لقتل عرفات في حمام الشط بتونس، إلا أن حذر الرجل أفشلها. ومثله سُيّر لقتل خليل الوزير في المكان عينه، إلا أن قدرية أبو جهاد مكّنتهم منه.

صالح العاروري كما هو ليس أول السلسلة، فهو ليس آخرها، كان الرجل يعرف مصيره، بل هو اختاره وقرره، هو يعرف أن خياره بمقاتلة إسرائيل لا أمان شخصياً فيه.

ولا نجاة منه في زمن ازدهار تكنولوجيا القتل، التي ليس له فيها ما لدى قتلته، هذه التكنولوجيا التي تقتل عن قرب وعن بعد تقتل بالبارود والبولونيوم السام، وبضغطة زر على نقطة في آخر الكون، تؤمر مسيّرة بإلقاء قنابلها بدقة إصابة لا تقل عن مائة في المائة.

لسوء الحظ أن إسرائيل إن لم تملكها فسيدة التكنولوجيا أميركا تزودها به، وليس للعاروري الذي هو أحد الأهداف الملحّة مثلها ليوجهها إلى خصومه في حرب... سمتها الأزلية أنها غير متكافئة.

تحققت نبوءة العاروري لنفسه، بأن يستشهد أخيراً وأن يكون موته كحياته زلزالاً هز الكون، وأنزل قادة وجيشاً إلى الملاجئ، وفرض استنفاراً من باب المندب إلى غزة، وأنتج سؤالاً محيراً لكل غرف العمليات العسكرية، كيف سيكون الرد ومتى وأين.

الإسرائيليون يتبادلون الأنخاب احتفالاً، ولكن للحظة وهم يعرفون أن الأمر ليس حكاية شخص لاحقوه طويلاً إلى أن ظفروا به... هي حكاية ظلم مستديم واقع على شعب ينشد الحياة ما استطاع إليها سبيلاً، وهذا لغز لا تحله المسيّرات ولا فوهات المدافع والرشاشات وكواتم الصوت...

إن الذي يحله أمر واحد لا بديل عنه... العدالة.