راديو سيارتي مصاب بشلل في مركز الحركة بالدماغ فينتقل من محطة الى أخرى من تلقاء نفسه وكثيرا ما يخذلني حين أكون مهتما بسماع شيء ما وخاصة الأخبار، وفجأة ينتقل الى محطة أخرى.
وقبل أيام كنت عائدا من رام الله وأنصت الى تلاوة من القرآن الكريم من محطة البث التجريبي للأذان برام الله عندما انتقل فجأة الى محطة تبث أناشيد وأغاني وطنية جذبت اهتمامي لأنها كانت عن الحرب على غزة.
كان الراديو يصدح...
"الأرض أرضي والسماء سمائي والقدس داري والدماء دمائي...
"من تحت عاصفة الدم هزي القلاع وقاومي غزة غزة غزة...
"اضرب والريح تصيح تسلم يا حامي الدار...
"قوموا هزّوا الأرض وهزّوا... وبعض أغاني جوليا بطرس الوطنية.
ووجدت نفسي أسرح مع هذه الأغاني والأناشيد الوطنية التي أعادتني الى أواخر الستينيات في أعقاب حرب 1967 وأوائل السبعينيات وأناشيد الثورة الفلسطينية... حين كان كل بيت في الأراضي المحتلة يلتف من حول المذياع– لم تكن التلفزيونات شائعة- ليسمع نداءات العاصفة وأغانيها ورسالاتها المشفرة...
"عهد الله ما نرحل نموت نجوع ما نرحل، واحنا قطعة من هالأرض وعمر الأرض ما بترحل...
"طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي، ولا يمكن قوة في الدنيا تنزع من ايدي سلاحي...
"آمنت بالشعب المضيّع والمكبل وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل...
"طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع..
وغير ذلك من الأناشيد التي ما زالت نوستالجيا أمثالي من أبناء ذلك الجيل... ناهيك عن أننا نستذكر هذه الأيام ذكرى الانطلاقة التي كانت ديمومتها احدى أهم مقوماتها.
الربط بين إذاعة العاصفة في الستينيات والسبعينيات حتى الخروج من بيروت عام 1982 وبين إذاعة طوفان الأقصى هذه الأيام يوحي بأن ما نراه اليوم هو انبعاث جديد أو تناسخ ينبع من استمرارية رفض الوجدان الوطني الفلسطيني للاستسلام وقبول واقع الهزيمة، وإصراره على التمسك بخيار المقاومة الى أن يتحقق الحلم بالحرية والاستقلال، وهذا الإصرار هو سر الحالة الفلسطينية التي كان الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات يصفها بطائر الفنيق الذي ينبعث دائما من تحت الرماد.
فقد ظلت روح المقاومة حية ولكنها تتخذ أشكالاً مختلفة من ثورة البراق عام 1929 الى ثورة القسام عام 1936 الى حرب 1948 الى انتفاضة 1987 الى الانتفاضة الثانية 2002 حتى حرب السابع من تشرين أول 2023.
وقبل الاستطراد لا بد من التأكيد أولا ً بأن عز الدين القسام كان يرفض أن يضفي أحد على ثورته اية صبغة حزبية، وثانياَ بأنني لست هنا في معرض الحديث عما حدث يوم السابع من تشرين أول أو الحرب المدمرة التي أعقبته وإنما أحاول البحث عن القاسم المشترك بين حالات المقاومة الفلسطينية المختلفة من ثورة البراق حتى اليوم.
والحديث اليوم عن حرب 7/10 ليس من منطلق أنها حرب فصيل معين حتى لو كانت كتائب القسام قائدها ورأس الحربة فيها. لأنه بالرغم من ذلك فهي تبقى في الإطار العام جزءا من المقاومة الوطنية الفلسطينية وإصرار الشعب الفلسطيني على الاستقلال والحرية. ولا شك بأن التماهي الشعبي الواسع النطاق الذي نراه في الأراضي المحتلة ليس تأييدا لحركة حماس كحركة إسلام سياسي كما تحاول بعض استطلاعات الرأي العام السطحية، وليس تأييدا لإقامة دولة دينية، وإنما هو تأييد للمقاومة ورفض لممارسات الاحتلال وجرائمه اليومية ضد شعبنا في القطاع والضفة، ومحاولاته تصفية القضية الفلسطينية من خلال قمع إرادة الشعب وتهجيره من وطنه سواء الى سيناء المصرية أو الى أي مكان آخر في العالم.
ومع أن هذا المقال لا يحاول تناول حماس كحركة والحديث عن سلبياتها أو إيجابياتها، إلا أنني أسمح لنفسي بالقول بأن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه عدد من قادة حماس التقليديين هو رؤيتهم لها كجزء من حركة الإخوان المسلمين، وخاصة قبيل وأثناء عهد المرحوم الرئيس محمد مرسي في مصر، وتبني منهج الإخوان من قبل حركة حماس على الساحة السياسية الفلسطينية إثر فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006 ومحاولاتها الاستحواذ على الحكم واستبعاد الألوان السياسية الأخرى من ألوان الطيف السياسي الفلسطيني ثم انقلابها على الحكم عام 2007 مما شكل ضربة قاصمة للوحدة الوطنية الفلسطينية ما زالت آثارها تتفاقم حتى اليوم.
ولعلي لا أجافي الحقيقة اذا قلت بأن السنوات الأخيرة أظهرت جيلا ً جديدا من القادة الحمساويين أكثر انجذابا نحو الحركة الوطنية الفلسطينية من انجذابهم نحو حركة الاخوان المسلمين التي نجحت في كسب عداء الكثير من الأنظمة العربية والدولية. وأقصد بالتحديد جيل الشهيد صالح العاروري الذي كان في مقابلاته الأخيرة يتحدث بحميمية ودفء عن منظمة التحرير الفلسطينية وعن دور حركة فتح رائدة المقاومة الفلسطينية وكذلك يحيى السنوار الذي يتحدث دائما وبكل تقدير عن الشهيد الراحل ياسر عرفات باعتباره أب الثورة الفلسطينية الحديثة وقائدها الروحي.
وتجنبا للإطالة، أقول بأنه وفي أوج الهجمة ضد حماس، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية ووعاءها منظمة التحرير الفلسطينية هي سفينة نوح التي يمكن أن تحمل كل مكونات قوس قزح الوطني السياسي الى شاطئ الأمان، وأول خطوة يمكن أن يخطوها جيل الأخ يحيى السنوار هو الإعلان وبشكل واضح لا يقبل التأويل بأنهم امتداد لحركة المقاومة الوطنية الفلسطينية وليسوا جزءا من حركة الاخوان المسلمين الدولية، وأنهم مستعدون للعمل من داخل منظمة التحرير الفلسطينية والالتزام بما لها وما عليها من التزامات دولية. وعلى قيادة منظمة التحرير أن تتقدم بمبادرة لاستيعاب الحركة الإسلامية داخل اطار منظمة التحرير ومن خلال خطة واضحة لتنشيط دور المنظمة وإعادة الدور الفاعل لمؤسساتها المختلفة على أسس المشاركة التمثيلية المؤسساتية، الى أن يتسنى اجراء انتخابات للكل الفلسطيني لإفراز قيادة منتخبة تعبر عن تطلعات ومصلحة الشعب الفلسطيني والوقوف أمام كل محاولات التذويب والطمس وإفشالها، والعمل تحت لواء واحد للوصول الى انهاء الاحتلال وإقامة الدولة على التراب الوطني الفلسطيني.
ولقد آن للطرف الآخر أن يفهم بأن إرادة الشعب الفلسطيني لا تُقهر وأنه لن يموت أو يندثر وأنه سيظل ينبعث حتى من تحت الدمار والخراب ليناضل من أجل حقه في الحياة الحرة الكريمة في دولته المستقلة كاملة السيادة على ترابه الوطني يرفع علمها شبل من أشبال فلسطين مهما طال الزمان أو قصر.