جريمة إسرائيل باغتيال الشهيد صالح العاروري، ليست مفاجئة. هذه هي إسرائيل. هكذا تصرفّت منذ إعلان إقامتها. بل هكذا تصرفّت العصابات الصهيونية قبل إقامتها. اغتالت عصابة «شتيرن» الصهيونية، بقيادة اسحق شامير، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، مبعوث الأمم المتحدة السويدي، الكونت فولك برنادوت يوم 17 سبتمبر/ايلول 1948. (وفي الذكرى الرابعة والثلاثين لهذه الجريمة يوم 17 سبتمبر 1982 وقعت مجزة صبرا وشاتيلا).
اغتالت إسرائيل قيادات فلسطينية: بالسّم (ياسر عرفات)؛ وبالرّصاص (خليل الوزير، وقبله: كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار ومأمون مريش وعاطف بسيسو وسعيد حمامي، وغيرهم)؛ وبالحرق (منذر أبو غزالة)؛ وبالمتفجرات (علي حسن سلامة وماجد أبو شرار، وقبلهما: محمود الهمشري، وغسان كنفاني، وبعدهم: يحيى عيّاش)؛ وعن طريق عملائها (صلاح خلف وهايل عبد الحميد، وقبلهما عصام السّرطاوي) وبالقصف من الجو أو البر (الشيخ أحمد ياسين، وقبله: أبو علي مصطفى وعمر السّرطاوي). والقائمة تطول وتطول.
تطوّرت نعمة التكنولوجيا. وتطوّرت، معها، لعنة التكنولوجيا. وصار في ترسانة إسرائيل مسيّرات وصواريخ موجَّهة، تمكِّنها من اغتيال الشهيد صالح العاروري. لكن التكنولوجيا لا تحسم الحرب. بل لا تحسم الحرب كل الأسلحة التقليدية وغير التقليدية أيضاً. ما يحسم الحرب هو: الإرادة. هكذا كان في الجزائر وفيتنام والعراق وأفغانستان. وهكذا تحسم الحرب في فلسطين.
اندلعت المواجهات في هذه الحرب، بالغة الدموية، في لحظة كانت إسرائيل فيها في حالة ارتباك وانقسام وتشرذم شامل على جميع الأصعدة، السياسية والعسكرية والمجتمعية: حكومة مرفوضة ومنبوذة من الغالبية العظمى في الشارع الإسرائيلي، بسبب ما أعلنته من توجه لتفكيك أساسات الديمقراطية التي يتمتع بها الشارع اليهودي (وحده) في إسرائيل، وتوجّه لإلغاء دور القضاء في حماية الحقوق العامة والفردية، وفرض سيطرة مطلقة للسلطتين: التنفيذية والتشريعية، بإلغاء دور السلطة القضائية، وهو ما يعني، في ظروف إسرائيل، تمكين رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من الإفلات من أي إمكانية لمحاسبته في القضايا المتّهَم بها، وإطلاق يد الأكثر عنصرية من الوزراء في حكومته: سموطرتش (وزير المالية) وبن غفير (وزير الأمن الوطني) لينفّذا سياساتهما بالغة العنصرية، وهو ما أدّى الى انقسام عمودي وأفقي في الشارع اليهودي في إسرائيل، وانطلاق مظاهرات أُسبوعية عارمة منذ الأسبوع الأول للعام الماضي، حتى يوم السابع من أكتوبر الماضي والأخطر من ذلك: مشاركة عشرات آلاف ضباط وجنود الاحتياط في جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي في هذه المظاهرات، وإعلان هؤلاء، (وخاصة الضباط في سلاح الطيران) عن إيقاف مشاركتهم في التدريبات الدّورية، والتّطوع في الخدمة العسكرية.
إذا كانت إسرائيل، تواجه هزيمة مؤكّدة على صعيد حربها الهمجية الدّموية على أهل فلسطين، في غزة أساساً، وفي الضفة والقدس، هذه الأيام، فإن حكومة نتنياهو تواجه حربين اثنتين.. خسرت أولاهما، وهي على بعد خطوات من خسارة الثانية، ولن يحميها من هذه الخسارة أي عملية اغتيال استعراضية
لحق بذلك موقف واضح من الدول الحليفة والحامية لإسرائيل، وأولها، وأهمها: الإدارة الأمريكية؛ ثم، غالبية دول أوروبا الغربية، ترفض سياسة حكومة نتنياهو بالغة العنصرية، ولم توجه لنتنياهو الدعوة الأمريكية التقليدية لزيارة البيت الأبيض.
في هذه الظروف الحسّاسة بالذّات، انفجر زلزال السابع من أكتوبر، في وجه إسرائيل، فتمّت إعادة خلط الأوراق بالكامل.
عاد ضباط وجنود الاحتياط الى الخدمة العسكرية، طوعاً، وحتى قبل استدعائهم، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبدأت مرحلة الحجيج الأمريكي والأوروبي الى إسرائيل، لإنقاذها من الصدمة القاتلة لطوفان وزلزال الأقصى وارتداداته المتواصلة. وأرسلت إدارة بايدن حاملتي الطائرات: جيرالد فورد ودوايت أيزنهاور، وغواصة نووية، لتطمين الإسرائيليين من جهة، ولمحاولة منع اندلاع حرب إقليمية متعددة الجبَهات، وارتكبت إسرائيل حماقة وضع أهداف لحملتها العسكرية الدموية غير قابلة للتحقيق: القضاء على حركة حماس، وجناحها العسكري: كتائب عز الدّين القسام.
مضى 90 يوماً حتى الآن على «فزعة» الجيش الإسرائيلي على أهل قطاع غزة، بعد أن استدعى 360 ألفا من ضباط وجنود جيش الاحتلال، ولم ينجح في تحقيق «صورة انتصار» يعود بها. قتل وأصاب نحو 90 ألفا من المدنيين في غزة. وجاء ليغطّي هذا الفشل باغتيال القائد الوطني الكبير، صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
يحاول نتنياهو تغطية فشله، وفشل حكومته العنصرية، في تحقيق أهدافه المعلنة، بالتحرّش الهادف إلى توسيع ساحات المواجهات العسكرية لتشمل بعض، (إن لم يكن كل) الساحات الممكنة في المنطقة، كي لا تكون هزيمته الأكيدة، وهزيمة إسرائيل، في المواجهة مع فلسطين وشعبها.
إذا كان الإسرائيليون (ككل) يخوضون حربهم العسكرية على قطاع غزة وأهله، (وعلى أهل الضّفة الفلسطينية والقدس العربية منها) فإن نتنياهو ووزراء حكومته، فاقعة العنصرية، يخوضون حرباً إضافية، هي حربهم ضد الديمقراطية (لليهود) الإسرائيلية. وفي حربهم الثانية هذه، مُنِيَت هذه الحكومة بهزيمة غير مسبوقة، حيث صدر قرار المحكمة العليا بأغلبية 12 قاضيا مقابل ثلاثة، بأن للقضاء الحق في إلغاء مشروعية أي تعديل على أي «قانون أساس» (وفي إسرائيل يعتبرون أن أي «قانون أساس» هو بند للدستور الذي يجري الإعداد لإعلانه لاحقاً) وبأغلبية 8 قضاة مقابل 7، لإلغاء التعديل الخاص بموضوع «المعقولية» وهو ما يعني (في هذه الظروف) تمكين المستشار القانوني للحكومة إعلان عدم أهلية رئيس الحكومة لمواصلة تولّيه لمنصبه.
هذه هي صورة الأوضاع المُعقّدة في نظام الحكم في إسرائيل. وإذا كانت إسرائيل (كَكُل) تواجه هزيمة مؤكّدة على صعيد حربها الهمجية الدّموية على أهل فلسطين، في غزة أساساً، وفي الضفة والقدس، هذه الأيام، فإن حكومة نتنياهو تواجه حربين اثنتين.. خسرت أولاهما، وهي على بعد خطوات من خسارة الثانية، ولن يحميها من هذه الخسارة أي عملية اغتيال استعراضية.
ورحم الله الشهيد الكبير صالح العاروري، وكل شهدائنا.