هناك العديد من المعلقين البارزين السياسيين والعسكريين ذهبوا إلى القول إنّ العد العكسي للحرب بدأ، لدرجة أن أبرزهم توقع يوم الأحد الماضي أن يتم ذلك خلال أسبوعين لا أكثر.
طبعًا، أنا ومعظم الفلسطينيين وغيرهم نتمنى أن يكون هذا صحيحًا؛ لأن هذه الحرب تستهدف إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم وتصفية قضيتهم من مختلف جوانبها، ويجب أن تتوقف. فيكفي قتل وجرح مئات الفلسطينيين كل يوم. كما أن كل شعبنا في قطاع غزة يعاني من الجوع والعطش وعدم الأمان والخوف من المجهول ومن انتشار الأمراض والأوبئة وعدم وجود الأدوية والعلاج المناسب.
وعلى الرغم من الكارثة الإنسانية المستمرة للشهر الرابع على التوالي، والصمود الفلسطيني الأسطوري والمقاومة الباسلة، ومن اتساع المعارضة للحرب، لدرجة استمرار الانتفاضة الشعبية العالمية، التي أثرت في مواقف الكثير من الحكومات، خصوصًا في الدول الغربية التي أخذت تطالب علنًا على الأقل بوقف الحرب، فإن الحرب ما زالت مستمرة، ولم يبدأ العد العكسي، وتوقع غير ذلك نوع من إسقاط التمنيات والرغبات على أرض الواقع.
والدليل على هذا الاستنتاج ما يجري في الميدان وتصريحات القادة الإسرائيليين السياسيين والعسكريين التي يجمعها التمسك باستمرار الحرب لمدة تتراوح من أشهر إلى عام كامل، والخلافات فيما بينها على شكل الحرب واليوم التالي لها.
إن استمرار الصمود الفلسطيني والمقاومة الباسلة والخسائر البشرية والاقتصادية والمعنوية والنفسية للاحتلال، ومع تعاظم الضغوط الخارجية، خصوصًا من الرأي العام العالمي، وتصاعد الخلافات الداخلية الإسرائيلية، لدرجة بدء حصول تشقق في الإجماع الإسرائيلي على الحرب، وانتقال القوات الإسرائيلية من المرحلة الثانية في الحرب إلى المرحلة الثالثة في شمال غزة، وسحب ألوية وعودة أوجه من الحياة إلى المرافق الإسرائيلية، بما فيها فتح الجامعات في إسرائيل، والبدء بإعادة العمال الفلسطينيين بأعداد صغيرة؛ كلها مؤشرات توحي بأن العد العكسي للحرب بدأ، ولكن ما يجري من مجازر وتصعيد في وسط وجنوب القطاع، والإعلان عن استمرار العمل لتحقيق ما عمله الجيش الإسرائيلي في الشمال في خان يونس التي توجد فيها القوة الرئيسية للمقاومة وقيادة حركة حماس السياسية والعسكرية بحسب زعم الاحتلال، لا يدل على أن الحرب ستنتهي خلال أسبوعين، بل مرشحة للاستمرار أكثر من ذلك.
الجبهة اللبنانية مشتعلة
كما أن ما يجري على الجبهة اللبنانية بعد اغتيال صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية، القلعة الحصينة لحزب الله، وتعهد الحزب وزعيمه حسن نصر الله بالرد، وقصف قاعدة جوية عسكرية إسرائيلية بـ 62 صاروخًا واستخدام أسلحة حديثة لأول مرة، واعتبار حزب الله أن هذا بداية الرد وليست نهايته، والرد الإسرائيلي المتصاعد وإطلاق تصريحات على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت ورئيس أركان جيش الاحتلال بأنه سيكون هناك تصاعد في الرد الإسرائيلي على جبهة لبنان، وأن إسرائيل لا يمكن أن تبقى بهذا الوضع، وأن حبل الجهود الدبلوماسية قصير، وأن إسرائيل ستقوم بكل ما يلزم لإجبار حزب الله إلى التراجع عن تواجد قواته على الحدود وعن استمرار قصفه لمواقع إسرائيلية مختلفة.
هذا في الوقت الذي فشلت فيه الجهود الأميركية والأوروبية والفرنسية في إقناع حزب الله بوقف حرب الإسناد، مؤكدًا أنه لا يريد الحرب الشاملة ولكنه سيخوضها إذا فرضت عليه، وهو مستعد للتوصل إلى حل دبلوماسي يحرر الأراضي اللبنانية المحتلة ويرسم الحدود البرية، ولكن هذا لن يتم التفاوض حوله قبل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة.
الحوثيون بالمرصاد
في الوقت نفسه، تتواصل أزمة البحر الأحمر؛ إذ يلتزم الحوثيون اليمنيون بما تعهدوا به من استهداف أي سفن إسرائيلية أو تتجه إلى إسرائيل؛ الأمر الذي عطل الملاحة في واحد من أهم الممرات الدولية، وكان لذلك آثار اقتصادية كبيرة؛ ما أدى إلى إنشاء تحالف دولي يضم عشرين دولة لمواجهة هذا التهديد، والتلويح بأن استمرار هذا القصف للبواخر وناقلات النفط والبضائع سيؤدي إلى استخدام القوة لمنع استمرار ذلك. صحيح أن هذا التهديد حتى الآن تلويح أكثر ما هو جدي، ولكنه لا يستبعد احتمال التصعيد والانزلاق إلى حرب، وخصوصًا أنه لا توجد مشاركة عربية تذكر في هذا التحالف؛ حيث لم تشارك مصر والسعودية والإمارات وقطر فيه، وطالبت باعتماد الحلول الدبلوماسية، والعمل على وقف الحرب على غزة، ولكن حتى الآن هذا الموضوع عالق، وهو يدفع أو مرشح للتصعيد أو التهدئة.
جولة بلينكن مثل سابقاتها
المدان والمعيب على الإدارة الأميركية أن جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الخامسة إلى إسرائيل والرابعة إلى المنطقة، مثلها مثل الجولات السابقة، وسيكون تركيزها الأساسي على منع امتداد الحرب إلى جبهات أخرى. أما حرب غزة فيمكن أن تستمر، مع المطالبة بمراعاة تقليل الضحايا وتدفق المساعدات الإنسانية، فلم يقبل بلينكن بوقف الحرب وإنما يدعو إلى هدنة تمكن إسرائيل من إطالتها، وركز على أن بلاده ستفعل كل ما يلزم لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. أما الفلسطينيون فيكفي تقليل عدد قتلاهم وتخفيف معاناتهم الإنسانية وبقاء أسراهم الذين يزدادون كل يوم وراء القضبان.
علينا أن نصدق أن دولة الاحتلال مستعدة هذه المرة لدفع ثمن كبير للحرب؛ لأن هناك إجماع إسرائيلي على أن عدم خروجها بانتصار واضح إستراتيجي يحقق أهدافها، أو قطع شوط كبير على هذا الطريق، سيمس بوجودها ودورها المستقبلي ومكانتها الإستراتيجية، ويعرّضها إلى طوفان أقصى جديد على يد الفلسطينيين أو غيرهم، أو كما قال وزير الحرب غالانت لا مكان لإسرائيل في الشرق الأوسط إذا لم تنتصر.
تطوران حاسمان لانتهاء الحرب
يمكن أن نحسم القول بأن الحرب شارفت على الانتهاء إذا توفر تطوران:
الأول: وهو الأهم، وصول الإدارة الأميركية إلى نتيجة مفادها أن استمرار الحرب يمكن أن يلحق أضرارًا بالمكانة والمصالح الأميركية والإسرائيلية أكثر من الفوائد التي تعود عليهما، والأهم أن تنتقل من إعطاء النصائح وإظهار الخلافات بصورة علنية إلى مرحلة ممارسة الضغوط وعدم توريد الأسلحة والذخائر، وإذا عدنا إلى المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية السابقة نجد أن الإدارة الأميركية تبدأ بدعم ما تسميه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ثم تنصح بوقف الحرب، وأخيرًا تطالب بوقفها، وتعطي الحكومات الإسرائيلية هامشًا لتحقيق ذلك، غير أننا لم نصل إلى بداية الضغط الجدي على إسرائيل بل مجرد نصائح ونشر الخلافات الإسرائيلية علنًا، ويمكن أن نصل إليه، وبعد ذلك يبدأ العد العكسي للحرب.
الثاني: فقدان الإجماع الإسرائيلي على الحرب، وهذا لم يحصل حتى الآن. نعم، هناك شكوك متزايدة بقدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها من الحرب، وكذلك هناك شقوق في الإجماع حول الحرب، وخلافات حول الأولويات بين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بالتفاوض وصفقات التبادل وبين استمرار العدوان لإطلاق سراحهم بالقوة، أو حتى لو تمت التضحية بالأسرى على أساس أن حياتهم ليست أغلى من حياة الجنود والضباط، إضافة إلى بداية العودة إلى الانقسام في إسرائيل حول هوية الدولة ودور الدين والمحكمة العليا بعد قرارها برفض الإصلاحات القضائية التي كانت تعتزم الحكومة تمريرها.
كما يوجد قدر من الخلاف على اليوم التالي للحرب، ولكن من دون أن نبالغ في هذه الخلافات، فإذا استثنينا الوزراء الأكثر تطرفًا الذين يطالبون باحتلال قطاع غزة وقتل أو تهجير الفلسطينيين، سنجد أن الاتجاه المركزي في الحكومة وحتى في المعارضة، يريد إبقاء السيطرة الأمنية لإسرائيل بعد الحرب، وفرض صيغة أقرب إلى الصيغة المعمول بها في المناطق المصنفة (ب) في الضفة الغربية، وتشكيل إدارة محلية، والاحتفاظ بمناطق عازلة، ورفض عودة السلطة إلا بعد "تجديدها"، وهذا الاسم السري لتحويلها من سلطة متعاونة إلى سلطة عميلة.
بكل وضوح، يخوض القادة الإسرائيليون الحرب بصورة مشتركة، ولا يختلفون حول ما تؤدي إليه من معاناة للفلسطينيين، ولكنهم لا يثقون ببعضهم، وبدأ الشرخ يتزايد في صفوفهم، ويتبادلون التهم على من يتحمل المسؤولية عن الإخفاق الكبير، هل القيادة السياسية أم العسكرية الأمنية، أم كلاهما. وظهر هذا الخلاف في الاجتماع الأخير للحكومة حين كادوا أن يتضاربوا بالأيدي على خلفية رفض بعض الوزراء قيام رئيس الأركان بتشكيل لجنة للبحث في أسباب الإخفاق في السابع من أكتوبر. ووصل عدم الثقة لدرجة أن بيني غانتس ووزراء حزبه قاطعوا الاجتماع الأخير للحكومة احتجاجًا على عدم مناقشة خطة اليوم التالي، وعلى تسييس المواقف بدلًا من تغليب الوحدة والأمن، وأن نتنياهو يفكر في إقرار قانون يسمح بوضع الوزراء والحاضرين من العسكريين وغيرهم تحت اختبار كشف الكذب لمعرفة من الذي يسرب ما يدور في اجتماعات الحكومة.
الخلاصة أن مجريات الميدان، وخصوصًا استمرار الصمود الفلسطيني والمقاومة الباسلة وما يترتب عليها من خسائر بشرية وغيرها هي التي ستُفرض أولًا وأساسًا وقبل أي شيء آخر .
لحظة العد العكسي للحرب لم تبدأ، ولكنها تقترب
لحظة الوصول إلى العد العكسي للحرب تقترب، ولكن لم نصل إليها حتى الآن، وذلك بسبب أن حكومة نتنياهو، وخصوصًا رئيسها، لها مصلحة شخصية في إطالة أمد الحرب، لكي تحاول تحقيق انتصار قبل وقفها، حتى يساعدها ذلك عند بدء التحقيق عنالمسؤولية عن الإخفاق التاريخي الذي ظهر يوم السابع من أكتوبر، ولكن يقترب العد العكسي جراء دخول تطور جديد في منتهى الأهمية، وهو قيام جنوب أفريقيا (وليس بلدًا عربيًا أو إسلاميًا أو دولة فلسطين) بتقديم دعوة قضائية ضد إسرائيل بمحكمة العدل الدولية لارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، وهذه الجريمة هي الوحيدة التي تفرض على محكمة لاهاي أن تصدر حكمًا مستعجلًا بها خلال أسابيع لا أكثر (هناك جلستا استماع في يومي الخميس والجمعة القادمين)، وأن قرارها في هذه الجريمة فقط ليس استشاريًا بل هو قرار ملزم للدول الموقعة على الاتفاقية (أكثر من 150 دولة من ضمنها إسرائيل)، وإذا لم تلتزم به إسرائيل كما هو متوقع ستكون مدانة عالميًا، لن تستطيع والدول الموقعة على الاتفاقية التعامل مع إسرائيل كما تتعامل معها الآن.
تكمن الخطورة في أن صدور قرار من أعلى محكمة دولية بوقف الحرب فورًا، والتحقيق في صحة الدعوى بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، في أنها ستجعل الإدارة الأميركية والدول الأوروبية التي تدعم إسرائيل محرجة جدًا، وإذا لم توقف إسرائيل الحرب ستكون واشنطن محرجة أكثر باستخدام الفيتو عند عرض الأمر على مجلس الأمن؛ لأنه سيكون ليس ضد دولة أخرى، وإنما ضد حكم قضائي، وستبدأ بعده حملات أقوى لمساءلة إسرائيل ومعاقبتها وفرض العقوبات عليها، وستنجح، وسيوقف التعامل مع إسرائيل بوصفها دولة فوق القانون الدولي.
استنادًا إلى ذلك كله، تعاملت الحكومة الإسرائيلية بصورة مختلفة عن المرات السابقة التي واجهت فيها دعوات قضائية في محكمة العدل العليا، التي أصدرت الأمر الاستشاري فيما يتعلق ببناء الجدار، وهو إنجاز سياسي وقانوني لم تقم القيادة الفلسطينية بتوظيفه واستنفاد الإمكانات للاستفادة منه. فقررت الحكومة الإسرائيلية أن تقدم دفاعها، واختارت محاميًا بريطانيًا قديرًا للقيام بالمهمة، وطلب نتنياهو من الوزراء أن يمسكوا ألسنتهم حتى لا يورطوا إسرائيل؛ لأن محكمة لاهاي يمكن أن تستخدم التصريحات المتطرفة التي تتحدث عن إبادة الفلسطينيين وقتلهم وتهجيرهم وعدم التفريق بينهم، بحجة أنهم كلهم إرهابيون ونازيون، بوصفها دلائل إدانة وإثبات أن هناك نية مبيتة في الإدانة .
ومع أن فرص النجاح بإدانة إسرائيل بارتكاب جريمة حرب كبيرة، فإن هناك مخاطر ليست قليلة بعدم النجاح، فرئيسة المحكمة أميركية، وكانت تشغل سابقًا منصبًا رفيعًا في وزارة الخارجية الأميركية، ويمكن أن تخالف هي وغيرها من القضاة نتيجة الضغط والابتزاز مقتضيات العدل، ويمكن أن تخضع لضغوط من حكام بلادها ومن اللوبيات المؤيدة لإسرائيل في أميركا والعالم كله، وخصوصًا أوروبا، لذا يجب عدم الاطمئنان للنتيجة بحجة أن القانون والقضاء بعيدان عن تأثير السياسة والسياسيين والمصالح، وهذا صحيح بشكل نسبي، وليس مطلقًا، لذا من المفيد جدًا انضمام دول أخرى، خصوصًا عربية وإسلامية وأوروبية لدعوة جنوب أفريقيا، كما فعلت ماليزيا وتركيا، ومفيد جدًا عمل حملات عالمية توضح بالدلائل القاطعة أن إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية وجرائم أخرى كبرى لا حصر لها، ويجب أن تعاقب عليها .