أســئــلــــــة الـحــــــرب (6)

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

لم يكن المثير في مقابلة أجرتها بريطانية تُدعى جوليا هارتلي مع الأمين العام للمبادرة الوطنية، مصطفى البرغوثي، ما عبّر عنه من مواقف قد يتفق أو يختلف معها البعض، بل تصرفاتها هي، بما فيها لغتها ومفرداتها، وطريقتها في الكلام. لذا، إضافة إلى إدارة جيّدة من جانب الأوّل للمبارزة الكلامية، حصدت المقابلة أرقام مشاهدات عالية، ومشاركات وتعليقات كثيرة.
وبما أن اليوتيوب، والقنوات المستقلة الغربية بشكل خاص، تشكّل، بالنسبة لي، مصدراً لملاحقة أحداث الحرب، فلا يبدو من السابق لأوانه القول: إن تحوّلاً ملموساً طرأ على مواقف وقناعات قطاعات واسعة من الناس العاديين في أوروبا الغربية، والولايات المتحدة. أصبح هؤلاء أقل قناعة بالسياسات الإسرائيلية، وأكثر تعبيراً عن التضامن مع الفلسطينيين.
للأمرين تجليات يصعب حصرها. ومن المؤكد أن العدد الهائل لضحايا الفلسطينيين، ونسبة الدمار المُفزعة في المباني والبنى التحتية (أعلى مما أصاب درسدن، أكثر المدن الألمانية دماراً في الحرب العالمية الثانية) على رأس الأسباب التي زعزعت القناعات. وفي سياق كهذا، تبدو مشاركات المقابلة سابقة الذكر، والتعليق عليها، وسيلة إيضاح جيّدة.
لا نعرف مدى قابلية التحوّل للتراكم الإيجابي. فهذا يعتمد على عوامل منها قدرة الفلسطينيين على توسيع دائرة التضامن. ولا ينبغي التقليل من ردة الفعل المضادة، ولعل الهجمة المرتدة، التي طالت أهم الجامعات الأميركية خير دليل وبرهان.
المهم، لمقابلة البرغوثي مع الصحافية البريطانية، التي لا يتفوّق على رعونتها سوى جهلها، دلالات لا ينبغي إسقاطها من الحسبان. فما وسم سلوكها من العدوانية، والتحيّز الأعمى، والعنصرية المتعالية، لا يقتصر عليها، بل يكاد يكون سمة مشتركة لليمين الغربي الجديد، الذي تجتمع تحت مظلته خلطة عجيبة، وزواج متعة، ومصالح قوميات وشعبويات وعنصريات كانت على الهامش منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصعدت في العقود القليلة الماضية.
في الذهن فرضية لطارق علي (من أبرز المثقفين اليساريين في بريطانيا) مفادها أن مركز الحقل السياسي، أي الوسط بين كتلتي اليمين واليسار لم يعد قادراً على الصمود. وبما أن المساحة التقليدية لليسار قد تقلّصت، فالخلاصة هي نجاح اليمين عاجلاً أم آجلاً في اجتياح المركز. وقد أتضح هذا حتى في الحقل السياسي الإسرائيلي، الذي اجتاحه اليمين، وزادت فيه حصة اليمين على حساب يسار تقزّم، وراجت فيه تعبيرات من نوع يمين ويسار الوسط.
لذا، وبقدر ما أرى: الإشارة إلى البريطانية السمجة، وفرضية مركز الحقل السياسي الذي صار على حافة الهاوية، علامات كاشفة على طريق تفسير الدعم غير المسبوق للإسرائيليين في الحرب، من جانب حكومات أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، على خلفية ما طرأ على الخارطة الانتخابية في الديمقراطيات الغربية من تحوّلات، سواء لحماية المركز من السقوط، بالتنافس مع اليمين الجديد (على طريقة تنافس أنظمة الحواضر مع الإسلاميين على مَنْ يخدم الإسلام أكثر في زمن مضى) أو ترجمة لحقيقة أن المركز صار رهينة في يد اليمين نفسه.
وبهذا المعنى، يُفسّر التضامن مع الفلسطينيين على خلفية صراعات أيديولوجية وسياسية احتدمت بشكل غير مسبوق في مركز الحقل السياسي. وبه، أيضاً، تتضح حقيقة الصلة العضوية بين كفاح الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير من ناحية، وقضايا الديمقراطية، وحقوق الإنسان في العالم، من ناحية ثانية. وهذا، في الواقع، عقب أخيل الفلسطينيين في اللحظة الراهنة، لا أيديولوجيا حماس، وتحالفاتها، ولا الكفاءة السياسية والثقافية للحقل الوطني العام، تضمن فتح آفاق أبعد من التضامن لأسباب إنسانية، بينما ما يدوم ويُعوّل عليه هو التضامن لأسباب سياسية وأيديولوجية.
مهما يكن من أمر، ستكون لدينا معالجات لطرح أسئلة بشأن العوامل التي أسهمت في صعود اليمين الجديد في الغرب. ولا أعتقد أن ملاحقة الدلالات المباشرة، وغير المباشرة، لمقابلة البرغوثي ـ والصحافية البريطانية (المفاجأة في هذه الحرب أن أكثر وجوه اليمين الأوروبي الجديد عدوانية وسماجة هم من البريطانيين) يمكن أن تكتمل دون تسليط ضوء على ظاهرة تبدو جديدة فعلاً في خطابات ولغة السياسة المتداولة في الحواضر العربية والهوامش، هذه الأيام، مع ملاحظة أن الهوامش صارت أكثر نفوذاً وتأثيراً لأسباب يطول شرحها.
المقصود بالظاهرة الجديدة أن جناح الأغلبية بين الإبراهيميين يتبنى لغة ومفردات اليمين الغربي الجديد، خاصة في سياق التعليق عبر وسائل إعلام غربية، على الحرب، بطريقة مفزعة، ودون التدقيق في اللغة والأصول الدلالية والسلالية للمفردات.
يمكن التدليل على أمر كهذا بوصف أطلقه أحد وجوههم الإعلامية على الحرب على غزة قائلاً إنها حرب الدفاع عن العالم الحر. ولا يعنينا من كل هذا الكلام سوى "العالم الحر"، التعبير الذي استخدمه الأميركيون في زمن الحرب الباردة لتمييز نظامهم السياسي الديمقراطي، وكذلك أنظمة أوروبا الغربية، عن نظام الحكم الشمولي السوفياتي في الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية.
إذاً: لا معنى لمفهوم "العالم الحر" بعيداً عن الصراع الأيديولوجي في عالم الحرب الباردة بين الديمقراطية والشمولية. فهل في الحرب على غزة ما ينطوي على شبهة صراع بين الشمولية والديمقراطية؟ الصحيح أن في خطاب اليمين الغربي الجديد، وعلى خلفية الكارثة التي ألحقتها بنا وبغيرنا موجة الإسلام السياسي، أن ثمة إشارات لا تحصى بشأن شمولية عالم الإسلام والمسلمين، وتعددية وديمقراطية الغرب والغربيين. وقد حاول الإسرائيليون، دائماً، الاستفادة من فرضيات كهذه، ولكن مع صعود معسكر اليمين الديني ـ القومي، و"سلام إبراهيم" ازداد الأمر صعوبة وتعقيداً.
لذا، وبقدر ما تبدو لغة الحرب الباردة عضوية ومنطقية في خطاب اليمين الغربي الجديد، تصبح كاريكاتورية، تماماً، في أفعال إبراهيمية للمحاكاة مقطوعة الصلة بنسبها الأصلي، وتداعياته الدلالية. فاصل ونواصل.