لا نبالغ لو قلنا بأن قطاع غزة، يعتبر منذ أكثر من ثلاثة أشهر مركز الاهتمام العالمي، كما لو كان النظام العالمي الجديد، أي ذلك الذي يلوح في الأفق، كبديل عن النظام العالمي الأميركي، يتشكل على أرض غزة، وذلك بعد أن شهد النظام العالمي الأميركي الذي نشأ بعد انتهاء الحرب الباردة تحديات من أقطاب آخرين، بدأت إرهاصات المواجهة بين أميركا وبينهم تظهر منذ سنوات وفي غير مكان، من شرق آسيا، إلى غربها، مروراً بالشرق الأوسط.
وتسارعت الأحداث، وتنقلت ساحات الاحتكاك، من شبه الجزيرة الكورية، إلى البر الصيني، ثم إلى الحدود الروسية_الأوكرانية، إلى أن انتقل كل الاهتمام العالمي، إلى الشرق الأوسط، متابعاً لما يحدث بين إسرائيل وقطاع غزة من مواجهة عسكرية، لم يشهد لها العالم مثيلاً في حدتها وقسوتها، ودليل ذلك أن إسرائيل قد أسقطت حتى اللحظة، أي بعد ثلاثة شهور من حربها الإجرامية سبعين ألف طن من المتفجرات، على رؤوس أقل من مليونين ونصف إنسان، محشورين في مساحة هي بحدود 360 كم مربع فقط، وأوقعوا خلالها ما يقارب المائة ألف ما بين شهيد وجريح، أي نحو 5% من مجموع السكان، وتدمير ما يقارب من نصف مباني ومنشآت قطاع غزة، وهكذا فإن ارتكاب إسرائيل لجريمة الحرب بحق قطاع غزة، بكل وضوح وصراحة، قد صدم العالم أجمع، بحيث تداعى في خمس جلسات لمجلس الأمن وأكثر من اجتماع للجمعية العامة، وعدد لا يحصى من اللقاءات السياسية، فيما جابت التظاهرات الشعبية كل عواصم ومدن العالم، وفي مقدمتها مدن الغرب الأوروبي والأميركي، ورغم كل هذا واصلت إسرائيل جريمة الحرب مكتملة الأركان، معتمدة على مشاركة الولايات المتحدة، لها عسكرياً ومالياً وسياسياً.
ورغم أن إسرائيل بكل ما لديها من جبروت عسكري، لا يقارن ما في غزة من سلاح بما لدى إسرائيل، فإن أميركا أقامت جسراً جوياً _بحرياً، لإمداد إسرائيل بالذخائر والأسلحة، إضافة للدفع بكوادر عسكرية تشارك في إدارة الحرب ميدانيا، فيما غزة وجدت الإسناد من الشقيق التوأم في الضفة العربية ميدانيا، ومن الكل الفلسطيني، في مقدمته السلطة بالطبع، بالدعم السياسي، وكذلك ساندت غزة عدة جبهات شقيقة، من اليمن إلى جنوب لبنان، مرورا بالعراق، وإن لم يكن بالطبع بتحويل الحرب إلى حرب إقليمية _بعد_ ولا حتى بتزويدها بالسلاح والذخائر، بسبب من طبيعة غزة الجغرافية المحاصرة، لكن اتضح بأن العالم إقليميا ودوليا قد اصطف على جانبي المواجهة، بما يؤكد بأن العالم ذاهب إلى نظام عالمي جديد، خاصة بعد أن فضحت الحرب طبيعة الأمم المتحدة المعطلة بسبب الفيتو الأميركي، الذي أحبط نحو خمسة مشاريع قرارات لفك الحصار عن غزة وإدخال المعونات الإنسانية، ووقف جرائم الحرب الخاصة بقتل المدنيين، من أطفال ونساء وصحافيين وأطباء، وقصف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وما إلى ذلك مما لا يعد ويحصى من جرائم ضد الإنسانية، ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، وصولا للمطالبة بوقف إطلاق النار ووقف الحرب الإسرائيلية على غزة.
وهكذا تأكد للعالم بأن النظام العالمي يحتاج إلى تغيير، ما دامت إرادته معطلة بيد الفيتو الأميركي، رغم كل ما قاله موظفو الأمم المتحدة وفي مقدمتهم أمينها العام الشجاع، انطونيو غوتيريس، ورغم تصويت 153 دولة في الجمعية العامة مع وقف الحرب، وإدانة جريمة الحرب الإسرائيلية، وهكذا فان النظام العالمي الحالي إنما يقهر الإرادة الدولية ويعطلها بدلا من أن يقوم بحمايتها وتنفيذها، من أجل الاستقرار العالمي، ودرء مخاطر الحروب، خاصة مثل هذه الحرب الإجرامية التي ما زالت تشنها إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية، وكل هذا وهي قوة احتلال، وتهدف بشكل واضح للإبقاء على الاحتلال الذي تجرمه القوانين الدولية، وتطالب بوضح حد له، بل ويعلن الوزراء الإسرائيليون بشكل صريح وواضح ليل نهار، أنهم يسعون إلى «تهجير» الفلسطينيين من وطنهم، بدلا من الانسحاب، وإنهاء الاحتلال، وإقامة السلام عبر حل الدولتين.
وما زالت إسرائيل تواصل حربها الإجرامية، وما زالت ترتكب جرائم الحرب، رغم كل ما يقال منذ أسابيع طويلة، عن «خلافات» أميركية _إسرائيلية بالخصوص، ورغم كل ما يعلنه البيت الأبيض من كلام، لا ترجمة فعلية له، وقد اتضح بأن كل جولات وزير الخارجية الأميركي الخمس، إضافة لكل زيارات المسؤولين الأميركيين للمنطقة، لم تتعد ما يطرح من اقتراحات داخل الكابينت الإسرائيلي، لجعل جريمة الحرب الإسرائيلية أكثر سهولة ويسراً، ومن اجل أن تصل إلى تحقيق أهدافها النهائية، بعد أن واجهت مقاومة ميدانية غير متوقعة، ومع كل ما يرافقها من رفض عالمي رسمي وشعبي، ومنذ نحو شهر، طالب جو بايدن بنيامين نتنياهو بإجراء تغيير على حكومته، وكان واضحاً بأنه يقصد طرد ايتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش، وربما إقامة حكومة مع حزب معسكر الدولة، خاصة بعد أن شارك فعلا بيني غانتس في حكومة الحرب الطارئة. ورغم أن نتنياهو لم يعر تلك المطالبة أي اهتمام، فان واشنطن ما زالت لم تغير من موقفها تجاه الحرب ولا قيد أنملة، ورغم أن واشنطن تقول بأنها تطالب ليل نهار نتنياهو بتجنب قتل المدنيين، وتركيز قوة النار، إلا أن أعداد الضحايا ما زال يفضح الموقف الأميركي، ورغم أن واشنطن تقول بأنها تطالب بإدخال المساعدات الإنسانية، إلا أن الوضع المأساوي في غزة مع طوابير الشاحنات من العريش إلى رفح يفضح واشنطن.
لا يمكن لواشنطن أن تدعي عدم قدرتها على التأثير، بل وفرض الالتزام بقوانين الحرب على إسرائيل، وذلك أضعف الإيمان، فهي الوحيدة التي يمكنها أن توقف الحرب خلال دقيقة واحدة، ويمكنها خلال دقائق معدودة أن تغير من وتيرة الحرب، وها قد انتهت مهلة الأسابيع، ومر رأس السنة، وما قال به مجرمو الحرب الإسرائيليون من إعلان المرحلة الثالثة، أي الانتقال إلى تركيز النار على أهداف عسكرية وتجنب قتل المدنيين، لم يكن سوى ذر للرماد في العيون، فالمرحلة الثالثة عند يوآف غالانت، ما هي إلا انتقال جزئي لوتيرة الحرب، أي تخفيف حدتها في شمال القطاع، مقابل زيادة حدتها في الوسط والجنوب، حيث انتقل الاكتظاظ السكاني إليهما بعد نزوح نحو مليون إنسان من شمال القطاع ومدينة غزة، وما يطالب به العالم وما يقول به حتى الأميركيون ولكن كلاماً، وهو السماح بعودة من نزحوا من الشمال للوسط والجنوب، إلى منازلهم في الشمال، لا تسمح به إسرائيل، وهكذا فإن إسرائيل حتى اللحظة، لم تتراجع عن تنفيذ أي ملف من ملفات جرائم الحرب، بما في ذلك التهجير القسري، عبر ارتكاب المجازر وتدمير البيوت والمنازل، أو ما يسميه سموتريتش بالهجرة الطوعية، من خلال جعل مناطق الشمال غير قابلة للحياة، بتدمير البنية التحتية، وهدم المنازل، وقطع الماء والكهرباء، ومنع إدخال المواد الغذائية.
هناك اصطفاف إقليمي من خلال فتح جبهات أخرى، مقابل ما أرادته إسرائيل وأميركا من تفرد عسكري إسرائيلي لذبح غزة من الوريد إلى الوريد، ومقابل إغلاق أبواب مجلس الأمن أمام تحقيق شيء من العدالة الإنسانية، تقدمت جنوب أفريقيا التي تدرك معنى وحقيقة الأخوة الإنسانية لجر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، ورغم أن إسرائيل وخلال سنوات مضت كانت تمارس ضغوطا لوجستية عديدة، ساندتها فيها أميركا لمنع السلطة الفلسطينية من فتح هذه الجبهة العالمية عليها، إلا أنها اضطرت هذه المرة، لقبول المثول أمام المحكمة، وذلك كأهون الشرين، وهي تراهن على أن ينجح دفاعها القضائي في رد تهمة ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية بحق المواطنين في قطاع غزة، على تشويه صورة الأمم المتحدة التي تتبعها المحكمة، وعلى أن تصريحات وزرائها التي دعت لتلك الإبادة لا تؤثر على القرار العسكري، كذلك تحاول ممارسة التأثير النفسي على القضاة عبر قاضي دفاعها أهارون باراك الناجي من المحرقة، والذي يحمل في جعبته فيديوهات يوم 7 أكتوبر، خاصة ما يسمى بفيديو الفظائع، أو فيديو العلاج بالصدمة، والذي تواصل عرضه على الصحافيين منذ 3 شهور، كل ذلك لأن إسرائيل تخشى أن تصدر المحكمة قراراً بوقف الحرب، ومن ثم تلاحق مسؤوليها بتهمة ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.