عن القتل واندهاش المحاكمة ..!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 


هكذا تزداد الحياة قتامةً ويتعمق فيها الحزن لأن إسرائيل التي اعتبرت سكان غزة مجرد حيوانات بشرية يحق لها أن تفعل بهم ما تشاء، ببساطة لأن لا أحد يحاسب ... لا أحد ولا قوة ولا دولة ولا هيئة ولا مؤسسة قادرة على وقف الإبادة الجماعية، ولأن هناك دولة عظمى لها تجربة رائدة في إبادة الهنود الحمر تقف خلف هذه الإبادة التي ترتكب بحق غزة التي تعتبر سكانها مجرد هنود حمر التاريخ الجدد.
هكذا في صباح أربعاء آخر حزين تستقبل مجرد رسالة صغيرة على هاتفك، تفتح من جديد جرار الوجع تقول «شريف ابن أختك استشهد»، هو شريف عكاشة الابن الذي دربته أختك الصغرى على أن يكون ظلك، وأنت مثله الأعلى ليتدرب على الصحافة حتى يلتحق بك، كان نائماً عندما قصفوا بيتاً بجانبهم، فجاءته شظية تائهة في رأسه لكنها مزقت قلب أختك، وهكذا يتراكم الوجع الذي لا يبدو له نهاية.
لم ترتكب إسرائيل جرائم ولا إبادة جماعية ولا تجويعاً، ولم تقتل مستشفيات ولا مدنيين ولا جامعات، ولم تدفن الناس في قبور جماعية، ولم تدُس القبور بالدبابات وتنبش المقابر ولا شيء من هذا. لذا يبدو الاندهاش الإسرائيلي من قضية تتقدم بها جنوب أفريقيا اندهاشاً له ما يبرره حين يكون العقل مختلاً ومنفصلاً عن الإنسانية، لكن المأساة أن يسلح العالم هذا العقل المختل والمصاب بالجنون، ويترك له أن يفعل ما يشاء على حساب إنسانيتنا وعواطفنا وتاريخنا وحياتنا ومستقبلنا الذي سيحمل قلوباً تكسرت.
لم تقتل إسرائيل صحافيين ولا أطباء ولا مدرسين ولا ممرضين ولا منقذي الدفاع المدني، ولا أطفالاً ولا نساءً ولا شيوخاً وعجائز ولا سيارات إسعاف ولا شيء، لم ترتكب إبادة جماعية، فلماذا يحاكمونها وهي ضحية التاريخ الدائمة؟ حتى عندما تقتل بلا حدود، حتى عندما تمارس التطهير العرقي هي ضحية، وعندما تمارس الإبادة الجماعية هي ضحية، والضحية لا يتم محاكمتها بل يحق لها أن تقتل بلا قيود.
اليوم الجمعة تستكمل المحكمة الدولية نقاش القضية المرفوعة من دولة جنوب افريقيا، والتي أيدتها الجامعة العربية «شكراً للجامعة»، قدمت الدولة التي عانت طويلاً من الظلم والتمييز والقهر ما يكفي من الأدلة لتكون محاكمة القرن، فإذا كانت محاكمات نورمبرج قد أخذت تلك التسمية، فإن اسرائيل أصرت على المنافسة وعلى أن تحظى بلقب محكمة القرن.
لم يتواضع قادة إسرائيل في تصريحاتهم التي أخرجت كل ثقافتهم تجاه الآخر، وقد ترجموا تلك الثقافة إلى فعل جرائمي بدءاً من التفاخر بقطع الكهرباء والماء والغذاء من وزير جيشها، وصولاً لطلب وزير بإلقاء قنبلة نووية على غزة، لولا وجود محتجزين لإسرائيل خوفاً من أن تقتلهم تلك القنبلة، ربما لفعلت اسرائيل هذا أو شيئاً شبيهاً به .... لم يكن العار على الحكومة ولكن أيضاً المعارضة برئيسها الذي رفض التهديد بذلك السلاح خوفاً على أسرى اسرائيل.
يجب أن تحاكم إسرائيل وأن تفرض أقسى العقوبات عليها قيادة وعسكراً ودولة، يحب أن تحاكم إسرائيل كدولة خرجت عن القوانين وعن الإنسانية وعن الشرعية وعن قيم وأخلاق البشر، وحملت وتزنّرت بأخلاق الغاب، يجب أن تُحاكم حتى تظل نموذجاً حاضراً للوجه الآخر للإنسانية كي تحافظ البشرية على نفسها.
اعتقدت الناس في البداية عندما طالب نتنياهو سكان قطاع غزة الخروج من بيوتهم أن إسرائيل لا تريد أن يقع المدنيون ضحايا القتال، واعتقدوا واهمين أن مطالبة الناس بالنزوح جنوب وادي غزة لتجنيب المدنيين ويلات الحروب، ثم لإعادتهم حين تنتهي عملياتها المسلحة في المنطقة، لكنها لاحقتهم في المكان الذي طلبت النزوح إليه، ثم لم توافق على عودتهم، ليتضح أن كل ما يحدث هو نزوح وإبادة وإعدام بالجملة للحياة وللبشر وللبنية التحتية.... وتندهش من المحاكمة.
ستخرج إسرائيل من التاريخ منبوذة، لقد سقطت أخلاقياً وأسقطت معها كل من أيّد تلك الإبادة التي ترتكبها، وأبرزهم الولايات المتحدة التي التحقت وموّلت ودعمت ووفرت الغطاء الدولي، ولم تضع كوابح قانونية وأخلاقية، ومن المدهش أن يندهش الرئيس الأميركي لسقوط صورتها الأخلاقية ... كم يحمل التاريخ هذا القدر من السخرية حين يصاب بلوثة.
 وداعاً شريف، وداعاً يا حبيبي.