لم تعد جنوب أفريقيا في أقصى جنوب قارة إفريقيا، بل أصبحت اليوم في قلب الكرة الأرضية، في قلب العالم، بل قلبه النابض. فهي اليوم قبلة أنظار كل الأحرار وكل المظلومين في العالم، وأمل ورجاء الفلسطينيين وكل من تعنيهم وتهمهم حياة الانسان وحريته وكرامته في العالم أجمع، ومن حق شعب جنوب أفريقيا، أرض الأحرار وموطن الحرية ومقبرة التمييز العنصري أن يشعر بالاعتزاز والفخار لأنه استطاع قبل عقود قليلة دحر نظام التمييز العنصري وإقامة نظام قائم على أسس العدل والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين، وتحقيق المصالحة الوطنية بين مختلف فئات الشعب، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وها هم اليوم، وانطلاقا من عمق التزامهم بمبادئهم الأخلاقية، يقفون أمام العالم أجمع للدفاع عن شعب مقهور يتعرض لأعتى أشكال العدوان والابادة الجماعية.
ولا أعتقد بأن هناك دولة في العالم تحظى اليوم بما تحظى به جنوب أفريقيا من الاحترام والحب والتقدير من قبل الشعب الفلسطيني ومن قبل كل محبي العدل والكرامة والحياة الإنسانية من بين كل شعوب العالم بسبب وقفتها الإنسانية الرائعة ضد استمرار مذبحة الشعب الفلسطيني على يد إسرائيل التي تشن حربا مدمرة ضد كل مظاهر الحياة الإنسانية في قطاع غزة، ولا يتوانى قادتها السياسيون والعسكريون عن التبجح بأن هدفهم هو محو غزة عن وجه الأرض، ويعملون على تنفيذ هذه الأقوال فعلا بارتكاب حربهم ضد الأطفال والنساء والشيوخ الذين يُقتلون تحت أنقاض منازلهم التي تُهدم فوق رؤوسهم ويبقى الآلاف منهم تحت الردم لأنه لا يوجد من يُخرجهم من تحت الركام، وإن وجد من يستطيع ذلك لا توجد المعدات والآليات اللازمة لرفع الأنقاض.
لقد قدمت جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية مرافعة معززة بالأدلة الداحضة الموثقة التي أبهرت كل المتابعين والمراقبين لسير أعمال المحكمة، علما بأن مسلسل الأعمال الجرمية ظل مستمرا حتى في ساعات انعقاد المحكمة، ما يضيف أدلة جديدة في كل لحظة تمر لأن العدوان ضد شعبنا في غزة هو من نوع الجرائم المستمرة التي تتكرر في كل ثانية وليس بالإمكان تحديث المعطيات الموجودة في ملف المحكمة أولا بأول، فهناك في كل ساعة أعداد جديدة من الضحايا من القتلى والجرحى بالعشرات والمئات.
ومن أجل وقف مسلسل القتل والدمار، ومن أجل توفير الماء والدواء والغذاء للشعب الذي يتعرض للإبادة في قطاع غزة، فقد تقدمت جنوب أفريقيا بطلب مستعجل لوقف اطلاق النار لحين تبت المحكمة في الطلب الأصلي وهو ادانة إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية. وفي حين أن البت في الطلب الأصلي قد يستغرق سنوات إلا أن البت في الطلب المستعجل قد يأخذ بضعة أيام ولذلك فإن صدور قرار عن محكمة العدل الدولية بوقف اطلاق النار في غزة يُعتبر فرصة تاريخية لإنقاذ أرواح المواطنين الفلسطينيين في القطاع. ومن أجل ذلك يقف شعبنا بكل مكوناته على أعصابه انتظارا للقرار المذكور.
وبالرغم من أن المرافعة القانونية الجنوب أفريقية كانت جامعة مانعة وموثقة بالحقائق والمستندات وأفلام الفيديو والصور وكلها أدلة دامغة، وبالرغم من أن الدفاع الذي قدمه المحامون الإسرائيليون الأربعة لم يكن قادرا على تفنيد الحقائق التي قدمتها جنوب أفريقيا، إلا أن صدور قرار بوقف اطلاق النار ليس مضمونا وليس بالأمر السهل كما يمكن أن يظن البعض، وكل الاحتمالات لا تزال قائمة بما في ذلك إمكانية صدور شيء ضحل كالطلب من إسرائيل بمراعاة قوانين الحرب مثلا أو رفض اصدار القرار أساسا.
محكمة العدل الدولية ليست محصنة من التدخلات السياسية من وراء الكواليس، ولا شك بأن جهودا ً مضنية ستُبذل من قبل إسرائيل ومن قبل الدول المؤيدة لحرب إسرائيل ضد غزة، وخاصة ألمانيا التي طلبت الانضمام الى جانب إسرائيل كطرف ثالث في الدعوى، وكذلك الولايات المتحدة التي ستتأثر سلبا من أي قرار يصدر ضد إسرائيل باعتبار الولايات المتحدة شريكا غير مباشر في الحرب تزود إسرائيل بالسلاح والمعلومات والتكنولوجيا الحربية والمال لمنع صدور قرار بوقف اطلاق النار، ولذا فلا بد من حملة مضادة وعلى أوسع نطاق ممكن من جانب كل الدول التي أيدت طلب جنوب أفريقيا لمنع حدوث ذلك.
الملايين من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين تتجه بأعينها وقلوبها نحو لاهاي انتظارا لقرار المحكمة بوقف اطلاق النار الفوري، مع علمها بأن القرار قد لا يُنفذ فورا من قبل إسرائيل وقد يتعثر على بوابة مجلس الأمن الدولي أمام الفيتو الأمريكي، ولكن مجرد صدور مثل ذلك القرار سيشكل عامل ضغط قوي على إسرائيل والدول الموالية لها لكي تضطر لوقف اطلاق النار وإنقاذ حياة من تبقى على قيد الحياة في غزة وتوفير العلاج والماء والغذاء والمأوى للملايين المشردين اليوم في غزة وهم أصلا من الذين شردوا من ديارهم عام 1948.
وفي المقابل، فإن عدم صدور قرار قوي من جانب المحكمة بوقف اطلاق النار سيشكل نكسة وهزيمة لكل القيم الأخلاقية الإنسانية وشهادة وفاة لما يسمى بالشرعية الدولية، وصدمة وخيبة أمل ليس فقط للشعبين الفلسطيني والجنوب أفريقي، بل لكل المدافعين عن الحياة والكرامة الإنسانية في كل بقاع المعمورة.
الوقت وقت عمل من أجل إنقاذ العدالة والقيم الأخلاقية، وإفشال كل المساعي التي تُبذل للتأثير على المحكمة والتي نفترض بأن القضاة العمالقة الخمسة عشر سيرفضون التأثر بها، وسيحكمون بما تمليه عليهم ضمائرهم الإنسانية لوقف شلال الدم المتدفق في غزة ولجم هذا العدوان المجنون الأهوج الذي يمارس ضد الأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل من السلاح بدافع الانتقام وبقصد تحقيق التطهير العرقي لصالح معتقدات مشيخية متطرفة لا تقيم وزنا لحياة الغير، بعد أن فشلت اسرائيل في تحقيق الهدف العسكري الذي ادعت أنها تحارب من أجل تحقيقه.