ربعة أشهر ونصف الشهر وما زالت «الانتفاضة» التي ميّزها استخدام السكاكين والدهس مستمرة بالرغم من الإعدام الميداني وهدم المنازل واحتجاز الجثامين والعقوبات الجماعية والاعتقالات الواسعة والغرامات المالية، وفي ظل عدم تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة. وأخذت شكل الموجات بين مدّ وجزر، ضمن منسوب منخفض مع تراجع المواجهات الشعبية على الحواجز في ظل منع الأجهزة الأمنية الفلسطينية للتظاهرات في عدة مواقع، واستمرارها في مواجهة اقتحامات قوات الاحتلال للمخيمات والقرى والمدن.
يستمر العجز الاحتلالي عن إخماد هذه «الانتفاضة» لأن أبطالها أفراد، مع عدم إغفال أن بعضهم ينتمون إلى فصائل، ولكنهم لا ينفذون عملياتهم بأوامر منها، وأن بعض العمليات استخدمت فيها الأسلحة النارية وقام بتنفيذها عدة أشخاص، ما يوحي بشكل من أشكال التنظيم، وهذا قد يؤشر إلى ما يمكن أن يحصل في المرحلة القادمة إذا استمر الحال على ما هو عليه حتى الآن من فراغ سياسي وفصائلي قاتل يتم ملؤه من المنتفضين الجدد.
وتكمن وراء اندلاع «الانتفاضة» بهذا الشكل عوامل وأسباب عديدة أدت إلى أزمة عميقة جدًا، تراكمت عبر سنوات طويلة مثقلة بالإحباطات والهزائم والخيارات الأحادية العقيمة، وتقادم الفصائل وعجزها، ما جعل «انتفاضة» الأفراد بانتظار القيادات والفصائل لقيادتها دون تلبية النداء.
وبناء على ذلك، بدأت الانتفاضة فردية واستمرت فردية، وعدو إسرائيل الأول فيها مواقع التواصل الاجتماعي، وهو عدو لا يمكن قتله أو اعتقاله.
لا يعني الحديث عن انتفاضة الأفراد بالضرورة أنها لا تعبر عن اتجاه جماعي بمشاركة المئات في العمليات المنفذة، وربما أضعافها من العمليات المحبطة، وتعاطف أغلبية الجمهور معها ومع منفذيها، وما يعنيه ذلك من أن الحركة الجديدة تجري في فضاء جديد وليس تحت سقف السياسي الفلسطيني التقليدي.
بدلا من تخرصات بعض المثقفين والمتحدثين باسم السلطة، والأجهزة الأمنية تحديدًا، عن رفضهم لاستخدام الحجارة حينًا، والسكاكين في أحيان أكثر، و»لإقحام» الأطفال، وإدانتهم للذين «يرسلونهم»، وكأن هناك من يقحمهم ويرسلهم؛ عليهم تفسير كيف ولماذا أوصل الاحتلال شبابنا وأطفالنا إلى هذا الحد من إلقاء أنفسهم في أتون المواجهة بهذا الشكل، وتوضيح أن وقود استمرار واشتعال «الانتفاضة» يتجسد في المشاهد التي يرونها كل يوم من إعدام بدم بارد للذين ينفذون أو بالزعم أنهم ينفذون هذه العمليات، ونتيجة لأحداث مثل حرق محمد أبو خضير وعائلة دوابشة وصرخات وأنين أحمد مناصرة وياسمين التميمي وكلزار العويوي وغيرهم الكثير.
كما يتجسد في الوحشية التي تقوم بها قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، وفي ظل التوسع الجنوني للاستيطان، والاعتداءات اليومية ضد الأقصى والمنازل والسيارات والمزروعات، واستكمال تهويد القدس وأسرلتها، وحصار قطاع غزة، وارتكاب مجازر جماعية ضده، حيث بات من العادة أن يشن الاحتلال عدوانًا غاشمًا على قطاع غزة كل سنتين أو ثلاث، إضافة إلى إغلاق الباب على أي أفق سياسي، والعمل على إحياء مبدأ «إسرائيل الكبرى» وتديين الصراع وإلغاء الخط الأخضر.
إن ما يحدث ليس انتحارًا، لأن المنتحر لا يستهدف العدو، بل يلقي بنفسه من فوق عمارة أو يشنق نفسه بحبل أو بأي طريقة، وليس يأسًا، لأن اليائس يهرب إلى الجريمة أو الدعارة أو البحث عن هجرة، ولكنه يعلن رفضه للاحتلال وعدم قدرته على تحمل استمرار الوضع على ما هو عليه، وعزمه على شق طريق يأمل أن يخلصه منه، وكطريقة للاحتجاج الدموي على الخيارات العقيمة المتبعة من قبل مختلف الفصائل وانعدام الخيارات لدى القيادة.
إن عدم وجود تنظيم وقيادة وأهداف للانتفاضة الناجم عن عدم تحمل الفصائل للمسؤولية لا عن اندلاعها ولا عن استمرارها. فالفصائل الرئيسية في ظل استمرار الانقسام بين نارين: نار الرغبة بتوظيف الانتفاضة لمصالحها الفئوية، ولإحياء خياراتها التي وصلت إلى طريق مسدود؛ ونار الخشية من دفع الثمن، ومن توظيف الخصم الداخلي لها لخدمة مصالحه وأهدافه وعلى حساب الطرف الآخر. وهذا يؤدي إلى مشاركة منها من دون وضع الثقل اللازم.
وما يزيد الطين بلة تقليل البعض أو مبالغته في إنجازات «الانتفاضة» التي تحققت حتى الآن، وما يمكن أن تنجزه. فهناك من ينفي أو يقلل من تحقيق أي إنجاز، أو إمكانية تحقيق شيء، وهناك من يروّج بأن «الانتفاضة» حققت المعجزات حتى الآن، وأنّها قادرة بمدى زمني قصير على الانتصار بالضربة القاضية على الاحتلال، بالرغم منّ أن وقائع وشروط الانتصار غير متوفرة، بدليل المأزق العام في ظل فشل الخيارات واستمرار التوهان والانقسام المدمر، وتدهور الوضع العربي، وعدم توفر وضع إقليمي ودولي مناسب.
المطلوب الاستعداد لعدم وجود حل قريب لا عن طريق المفاوضات أو المقاومة أو الانتفاضة، وأن على الشعب الفلسطيني أن يستعد ويكيّف نفسه لمعركة طويلة، وقد يكون في مصلحته في هذه الظروف مع أهمية استمرار الكفاح وعدم وصول الصراع إلى لحظات حاسمة وفاصلة، لأن الذي يستطيع أن يحسم حتى الآن هو العدو، بل وينتقل البعض إلى تقديس العفوية التي تظهر بانتفاضة الأفراد، ليس على اعتبار أنها لحظة من المفترض أن تكون مؤقتة، بل يجري تزيين ابتعاد الفصائل عن قيادة الانتفاضة بالزعم بأن هذا أفضل، ولأن قيادة الفصائل لها ستخربها وتحرفها عن مسارها.
يوجد فرق بين الخشية من قيادة الفصائل للانتفاضة وأن تؤدي إلى ما انتهت إليه الانتفاضات السابقة أو أسوأ (أوسلو والانقسام)، وهذا مبرر، وبين إنكار ضرورة الوعي والتنظيم السياسي القادر على تثمير الانتفاضة، لأن الشعب يريد ويحتاج ويستحق انتصارًا وليس إضافة صفحة مجد جديدة في التاريخ الفلسطيني، والانتصار يمكن أن يتحقق على دفعات وبالتراكم، وصولا إلى لحظة نوعية حاسمة يتحقق فيها إنجاز وطني كبير، مثل دحر الاحتلال وطرد المستوطنين ورفع الحصار عن قطاع غزة وإطلاق سراح الأسرى، على طريق تحقيق بقية الأهداف.
هناك، خصوصًا السلطة، من يذرف الدموع على الضحايا الشباب والأطفال الذين يرتقون إلى السماء في هذه الانتفاضة، ويدعو إلى سلمية الانتفاضة وابتعادها عن كل أشكال العنف والمواجهة، في حين أنه لا يريد في الحقيقة أو لا يعمل بشكل جاد من أجل انطلاق أي مقاومة سلمية أو غير سلمية، لأن الكثير من المنادين بالمقاومة السلمية لو كانوا جادين ويعنون ما يتحدثون عنه لوضعوا طاقاتهم وراء انتفاضة سلمية فعالة، وعندها سيجعل الشباب الذي يقدم دمه من دون ضمان إيقاع الخسائر في صفوف العدو ومن دون أفق سياسي ولا قيادة يسير خلفها، ما أدى إلى اتخاذ المواجهة هذا الشكل تقاعس القيادة والقوى عن تنظيم مقاومة فعّالة وقادرة على تحقيق الأهداف الوطنية، سلمية كانت أو غير سلمية.
بالرغم من دخول «الانتفاضة» شهرها الخامس، لا تزال الفصائل والقيادات «تتضامن» معها «وتتفهم» أسباب اندلاعها مثل بان كي مون، وربما أكثر قليلا، من دون أن تجهد نفسها حقًا في رفد المواجهة بعوامل استمرارها وتطورها، ومتطلبات انتصارها المتمثلة بالقيادة والوعي والتنظيم والجبهة الوطنية وتحديد الأهداف، وتحويلها إلى انتفاضة تتناسب مع الخبرات المستفادة وخصائص الصراع وموازين القوى بهدف تغييرها.