كانت النيّة تكريس مقالة اليوم للتعليق على ما أثارته تعديلات على هيكلية مجلس أمناء مؤسسة محمود درويش من لغط، تداخل فيه الثقافي بالسياسي، وتطاير منهما الشرر.
ولكن رحيل سلمان ناطور، يوم أمس، يفرض أولوية مغايرة تستمد جدارتها من أمرين اثنين: مكانة سلمان ناطور في المشهد الثقافي، وصداقة لم تنقطع منذ ثلاثة وعشرين عاماً، بدأت في تونس، واستمرت في البلاد. ولا يمكن، في الواقع، الكلام عمّا يمثله خارج حدين أساسيين هما الجغرافيا والزمن.
فسلمان ناطور، بما قل ودل: نشأ في الجليل، أي في جغرافية ملتبسة، ومثقلة بالدلالات، وعثر في الكتابة على ما يمكّنه من حماية هوية مُهدَدة، والدفاع عنها. ولم تكن تلك تجربة فردية، أو فريدة، بل كانت تجربة جيل من الفلسطينيين وُلد قبل النكبة، أو بعدها بقليل، وعاش، في بلاده التي لا يملك، ولا يعرف، بلاداً غيرها، باعتباره أقلية قومية، ومواطناً من الدرجة الثانية في دولة اسمها إسرائيل، وحُكم عليه بالعيش في ما يشبه الحجر الصحي مقطوع الصلة بامتداده القومي، واللغوي، والإنساني، حتى العام 1967، عندما وحدته الهزيمة الحزيرانية بما تبقى من شعبه، في ما تبقى من أرضه. في حدود ذلك الشرط الجغرافي والإنساني نشأ جيل فريد من الفلسطينيين.
ومن حسن الحظ أنه لم يكن بلا آباء، بل وجد في الحضور الحي والفاعل، بالمعنى السياسي والثقافي، لإميل حبيبي، وتوفيق زيّاد، وحنّا أبو حنّا، وإميل توما، ما يمكنه من بلورة هوية وطنية صريحة وفصيحة، في الزمن الناصري. ومن حسن الحظ، أيضاً، أنه وجد في البيئة الثقافية والسياسية والأيديولوجية للحزب الشيوعي المدرسة الأخلاقية، والمنبر الحر.
وإذا شئنا الكلام، بأثر رجعي، عن النهضة الثقافية، والأدبية، والسياسية، التي عاشها الفلسطينيون في سبعينيات القرن الماضي، فلا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، حقيقة أن لقاء الكتل الديمغرافية الكبرى، في فلسطين التاريخية (الجليل والمثلث والنقب من ناحية، وغزة والضفة الغربية من ناحية ثانية) يكمن في صلبها، وينبغي أن يكون مدخلاً رئيساً في كل محاولة لفهم ما تجلى فيها، وحكمها، من ديناميات ثقافية، واجتماعية، وسياسية، ووطنية (إذا شئت).
في سياق هذين الحدين، أي الجغرافيا والزمن، عثر سلمان ناطور على صورته وصوته، تماهى مع زمانه ومكانه، وعاش فيهما ولهما. ففي كل ما مارسه من أشكال التعبير الأدبي والفني، يمكن لهمه الرئيس، أن يُختزل في ما أطلق عليه محمود درويش ذات يوم "ذاكرة للنسيان".
كانت مشكلة فلسطين، ولا زالت، أن الدولة الإسرائيلية تستمد ما يبرر وجودها من مزاعم ذاكرة استعصت على النسيان، ولكنها لا تقترح على الفلسطينيين، شيئاً سوى النسيان. نسيان مَنْ هم، وما هم، والعيش في الحاضر بلا ذاكرة. وبهذا المعنى، وفي هذا المعنى، تتجلى المعاني المُضمرة، والمباشرة، للذاكرة في الهم الثقافي والسياسي لسلمان ناطور، وجيله. والمثير، في حالة سلمان، أن الكتابة في أجناس أدبية مختلفة، لم تعد تكفي. صحيح أن علاقته الكتابية بالمسرح قديمة، إلا أن اتجاهه إلى كتابة نصوص وتمثيلها كان مفاجئاً، بالنسبة لي على الأقل. وقد سألته عن هذا الأمر في أكثر من مناسبة، فقال إنه يبحث عن وسيلة تعبير إضافية، وأنه كثيراً ما فكّر بالتمثيل.
في هذا "التفكير" ما ينم عن رغبة إبداعية حارقة تحاول الاستعانة بالجسد نفسه كوسيلة إيضاح وتعبير. وهذا لن يكون مفهوماً بصورة كافية ما لم نتأمل فعل التمثيل باعتباره ممارسة للحرية، وشكلاً فريداً من أشكال التعبير عنها، في ظل جغرافيا سياسية وثقافية وإنسانية ملتبسة.
ولعل في هذا ما يفسّر، أيضاً، مركزية التمثيل وفنون أدائية متنوعة لدى أقليات قومية، وثقافية، في مناطق مختلفة من العالم. وفيه ما يفسّر، أيضاً وأيضاً، وفرة المواهب الجليلية في التمثيل والموسيقى والغناء. وهذه نعمة تُذكر فتشكر.
مهما يكن من أمر، لم يعد سلمان ناطور، للأسف، بيننا. في غيابه خسارة لفلسطين، بالمعنى الثقافي والسياسي والإنساني، وخسارة لأصدقائه بالمعاني نفسها، ناهيك عن عائلته بطبيعة الحال. يُقال، عادة، في وداع الراحلين، إن ذكراهم ستبقى معنا وبيننا. وهذه عبارة إنشائية، وبلا معنى تقريباً، ما لم نُعرّف الذكرى، وكيف تبقى. كان سلمان مثقفاً وطنياً ينتمي إلى، ويعبّر عن، ثقافة علمانية تقدمية وإنسانية (ولنلاحظ أن كلمة التقدمية اختفت، للأسف، من القاموس، وخرجت من التداول منذ زمن) ولا معنى للحفاظ على ذكراه دون تكريس ما مثّله من قيم ثقافة علمانية وتقدمية وإنسانية، خاصة في هذا الزمن الأغبر، زمن التدعيش والدواعش، والأصولية القادمة من أقاصي الصحراء، وكهوف الماضي، التي أطاحت بدول ومجتمعات وتكاد تطيح بكل ما تبقى من عروق خضراء في جسد فلسطين والعالم العربي.
بهذا المعنى نحفظ ذكرى وذاكرة سلمان ناطور. نحفظها، في هذا الزمن الأغبر، في كل ممارسة للثقافة، باعتبارها ذاكرة للنسيان.