ما هو مؤكد حتى الآن أن حرب غزة نقلت القضية الفلسطينية من موقع ثانوي بين القضايا الإقليمية والدولية المستجدة، إلى موقع مركزي بحيث تكرست كقضية أولى تستحوذ على اهتمام العالم.
ولم يحدث من قبل أن صار الحديث عن حل الدولتين متداولاً بقوة كمخرج من حالة الحروب التي تفتك بالشرق الأوسط وتصيب مصالح العالم فيها بأفدح الضرر.
هذا أحد أهم المكاسب التي تحققت منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب وحتى يومنا هذا، ومهما كانت نتائجها فلن ينتقص من هذا المكسب.
وبميزان الربح والخسارة يمكن تسجيل مكسب آخر، وهو إنعاش الحالة المعنوية للشعب الفلسطيني الذي وقف طويلاً على حافة اليأس، وهو يرى قضيته التي كانت تصنف بالمركزية، وقد تراجعت كثيراً إلى الحد الذي غابت فيه عن الأجندات الإقليمية والدولية.
أمّا الحلول التي كان يتم تداولها قبل الحرب، فقد ابتعدت كثيراً عن الحل الذي سعى إليه إذ استبدلت الدولة الحقيقية على الأرض بدولة وهمية على الورق، واستبدلت الحقوق الثابتة التي وصفها العالم بغير القابلة للتصرف برزمة تسهيلات هي أقل كثيراً مما حصل عليه أي شعب آخر حتى بصيغة الحكم الذاتي.
أمّا قدس الأقداس التي اعتنق الفلسطينيون مبدأ أنها عاصمتهم الأبدية فقد اختزلت بقرية أبو ديس مع ممر مغلق يستخدم لأداء الصلاة فقط.
أمّا ما بقي من عناصر القضية الكبرى فقد صارت نسياً منسياً، فمن يتحدث في هذه الحالة عن اللاجئين وعودتهم؟
هذا كان حال الفلسطينيين قبل هذه الحرب، إلا أن الذي حدث ونأمل أن يستمر، أنعش في نفوس الفلسطينيين ثقة وأملاً بحل سياسي يتبناه العالم ويتحدث عنه بوتيرة أعلى، مع وعد أكثر وضوحاً بأن يعمل العالم عليه كحتمية منذ اليوم الأول لانتهاء الحرب.
غير أن هذه المكاسب النوعية والهامة لا تخلو من محاذير تحيط بها، ولا ضمانة من أن لا تتحول إلى عكسها، إذا جاءت نتائج حرب غزة كما يريدها ويصممها الإسرائيليون.
المعلوم عن اليوم التالي لتوقف الحرب هي الاحتياجات العاجلة التي لا تحتمل التأجيل ولو ليوم واحد، وهي العمل الاسعافي الذي يسبق العملية الأكبر "إعادة الاعمار". فالإسعاف العاجل والملح أن تجد مئات ألوف البشر مأوىً بحد أدنى من شروط العيش فيه، ولو على مستوى خيامٍ تقي من البرد والمطر، وأن يجد طلبة المدارس الذين منعوا من تحصيل علومهم شهوراً، ولا أحد يعرف كم ستطول عندما يتفق على أن الحرب وضعت أوزارها فعلاً، ناهيك عن تأمين غذاء ودواء وكساء للملايين الذين سيضطرون لبدء حياتهم من الصفر، ذلك مطلوب قبل أن تبدأ عملية إعادة الاعمار.
تلك العملية التي تحتاج إلى جمع مليارات من رقمين للشروع الفوري فيها بدءً من إزالة الأنقاض وإلقائها في البحر، ثم توفير مستلزمات إعادة بناء مئات ألوف البيوت المدمرة، والمسألة في هذه الحالة ليست زلزالاً دمر مدينة بقدر ما هو زلزال دمر بلد.
والسؤال الذي لم تعرف إجابته حتى الان اين ستكون إسرائيل في تلك الأيام التي تلي انتهاء الحرب، هل ستكون في غزة كلها، أو في بعض مناطقها، أم تدير حصارا أفظع وأقسى مما كان قبل الحرب.
بهذا الشأن يجري حديث عن المرحلة الثالثة، التي هي نتاج تنظير أمريكي قديم، لم يؤخذ به، وتعني أن تظل الحرب مستمرة ولكن بوتيرة دم ودمار أقل، وذلك يعني أيضاً بقاء إسرائيل في غزة، مباشرة أو بالسيطرة عليها بالحصار والنار.
أسئلة من المبكر إيجاد إجابة دقيقة عنها لأن أمورها بيد قوىً عديدة متداخلة ومتنافرة وذات أجندات خاصة بكل منها.
لم أتطرق في هذا التحليل الأولي إلى عامل الوقت، الذي لا يعرف أحد كم سيكون مداه، في حالة القتال أو خفضه أو الانتقال منه إلى الخلاصات النهائية، ثم كيف سيكون حال الفلسطينيين في اليوم التالي؟ هل سيستجيبون للدعوات الملحة لإصلاح حال السلطة؟ هل ستكون حماس من ضمن التركيبة الفلسطينية المؤقتة والنهائية؟
المكاسب الفلسطينية تمت الإشارة إليها في بداية هذه المقالة، أمّا الخسائر، فإذا كان متاحاً حصر الجانب المادي منها فخلاصاتها النهائية لم تزل شديدة الغموض. وعلينا كفلسطينيين أن نحسن إدارة ما بعد الحرب، لأنه أهم بكثير من إدارة الحرب ذاتها ذلك أن المصير الفلسطيني لا يُحسم بحرب أو عدة حروب، وإنما يحسم بإنجاز سياسي يصنعه الشعب المنظم والمؤهل والقادر ليس على الصمود فقط وإنما على التقدم.