أنّ إسرائيل دولة مارقة، شرّيرة وإجرامية فهذه مسألة سيتولّاها القانون الدولي في كلّ مؤسّساته الرسميّة، وستتولّاها شعوب العالم كله.
بصرف النظر عمّا سيكون عليه قرار محكمة العدل الدولية، سواءً تعلّق الأمر بالمطالب المباشرة التي ستخرج بها المحكمة، أو بقرار الإدانة، فقد أصبح واضحاً الآن أنّ الهستيريا الإسرائيلية في مواجهة المحكمة ليست صدفة أو حالة منفعلة، لأنّ إسرائيل تفهم وتقدّر، وتدرك حجم خساراتها قبل تلك المطالب، وقبل القرار المرتقب.
فقد خسرت من خلال مثولها أمام المحكمة "احتكار" صورة الضحيّة، وخسرت بالتالي "امتياز" كونها قد نشأت وتطوّرت وعاشت واعتاشت على امتياز أنّ نشأتها وتطوّرها كلّه قد جاء بعد "المحرقة"، وأنّ هذه المسألة بالذات هي احتكار وامتياز حصري لها، ويخصّها وحدها، وبالتالي فإنّ وقوفها أمام قضاة "العدل الدولية"، هي بالذات (صاحبة الاحتكار والامتياز الحصري) هو بمثابة كارثة سياسية تفوق القدرة على التحمُّل.
وطبعاً تتوالى الكوارث السياسية فوق رأس إسرائيل إذا وافقت المحكمة بأنّ شبهة الإبادة الجماعية متحقّقة، وهو الأمر الذي سيعني حتماً الموافقة على الجزء الأكبر من المطالب الواردة في لائحة الدعوى التي قدّمها الفريق القانوني لجنوب إفريقيا الذي ترافع في اليوم الأوّل، والذي أبهر العالم كلّه بدرجة المهنيّة واحترافيّة الوصف والسرد، ومنطقيّة، وموضوعية المرافعة.
أمّا الإدانة بالتهم، وخصوصاً التي تتعلّق بالإبادة الجماعية فهي كارثة الكوارث، لأنّها ستفتح على إسرائيل أبواباً لا تستطيع إغلاقها، وليس بمقدور الولايات المتحدة الأميركية، ولا "الغرب" كلّه إغلاقها حتى لو تمّ استخدام "حق النقض" في مجلس الأمن، وذلك لأنّ الجمعية العامة تستطيع تثبيت التهمة، وقد سبق وأن قامت الجمعية بذلك، وستفتح أبواب المحاكمات الفردية لكلّ من شارك في هذه الإبادة، وسيطال الأمر الدول التي شاركت، وستُخلق وتتولّد وتتوالد الكثير من الأزمات الدولية لإسرائيل، ولـ"الغرب"، وخصوصاً بعد استحقاقات المقاطعة والعقاب.
هذا هو القفص الأوّل.
أمّا القفص الثاني فهو قفص الكذب. نعم قفص الكذب، ليس الكذب في مواجهة التهم التي تتعلّق بالقفص الأوّل، وإنّما الكذب الذي يتعلّق بتضليل الجمهور الإسرائيلي والكذب المفضوح عليه.
لو لم يقل أعضاء في "المجلس الحربي"، بالصوت والصورة: "يكفي كذباً، ويكفي إلى هنا، ولا بدّ من صفقة شاملة وسريعة" لما صدّق أحدٌ أنّ الكذب قد وصل إلى الجمهور الإسرائيلي لما وصل إليه، وأنّ التضليل قد تجاوز كلّ الحدود.
واضحٌ الآن أنّ ما كان يُقال في بعض الكواليس، وما كان يتمّ تسريبه حول الاختلافات والمشاحنات والمناورات لم يكن سوى غيض من فيض، وواضح أنّ الفشل كان محسوماً إلى حدّ بعيد، وأنّ إمكانيات تحقيق الأهداف معدومة، وأنّ المراهنة على عنصر الزمن، والمزيد من "الضغط" العسكري، والمزيد من القتل والإبادة لم يكن، ومنذ عدّة أسابيع سوى تضليل وكذب.
كلّهم يعرفون أنّ الأمر هو كذب، وكلّهم يعرفون أنّ الأهداف كاذبة، وكلّهم يعرفون أن تحقيقها هو مجرّد أكاذيب، وكانت جلساتهم أقرب إلى حفلات التكاذب "المتّفق عليه"، وكلّهم يعرفون الآن، وأكثر من أي وقت مضى، بأنّ نتنياهو عندما اقترح أن يخضعوا لماكينة كشف الكذب إنّما كان يقصد بالذّات التسريب حول الكذب، أو حول حقيقة الفشل، أو الأكاذيب حول عدم إمكانيات تحقيق الأهداف.
الأكاذيب ليست من النوع التي يمكن السكوت عنها لفترةٍ طويلة. فقد تبيّن الآن أنّ الحرب التي ستمتدّ حتى نهاية العام الجاري ــ حسب أقوال بعض قادة الحرب ــ التي يمكن أن تمتدّ حتى إلى العام القادم.. حسب بعض قادة الحرب أنفسهم، أو غيرهم، كلّ حسب قدرته على الكذب، والظهور بمظهر الواثق من أحاديثه.. هذه الحرب التي ستمتدّ لشهور أو سنوات هي الكذبة الأكبر من بين كلّ الأكاذيب. وهي في الواقع ليست سوى الصيغة الكاذبة للتعبير عن عدم الاستعداد لوقف إطلاق النار.
وقف إطلاق النار يعني الاعتراف بالهزيمة، والكذبة الكبرى هي أن تصبح العمليات العسكرية مُنتقاة بعد انسحاب معظم قوات الاحتلال، وأن يتمّ هذا الوقف "عمليّاً" دون إعلان لأنّه سيخفض الاشتباك إلى أدنى الدرجات، وتأمل دولة الاحتلال وتعمل في الواقع على أن يُصار إلى "تفاهم" كهذا وصولاً إلى صفقة تبادل شاملة، وبالتالي فإنّ الحديث عن امتداد الحرب هو كذب في كذب، لأنّ القوات الإسرائيلية بدأت فعلاً بالتراجع، وهي ستتراجع أكثر في الأيّام والأسابيع القادمة، وستصل إلى ما تسمّيه الولايات المتحدة بـ"المرحلة الثالثة" دون إعلان، وستصل إليه صاغرةً وليس بغير ذلك.
أي أنّ ما يجري هو "تبليغ" المجتمع الإسرائيلي للشكل الخاص من وقف إطلاق النار تحت وابلٍ من دخان الاستجابة لصفقة التبادل، ولكن دون إعلان رسمي بإنهاء الحرب.
كلّ ما يهمّ قادة الحرب في إسرائيل أن لا يتمّ الإعلان عن الفشل والإخفاق، باستثناء من باتوا يطالبون علناً بمثل هذا "الاعتراف"، لكي يُصار إلى إعادة بناء الجيش، وحيث ينطوي هذا النوع من الاعتراف على أنّ بنية الجيش قد تضرّرت بصورةٍ حادّة.
هذا كلّه يعني أنّ الحرب إذا امتدّت حسب "الواقع"، وحسب المفهوم الإسرائيلي الغامض لهذا الامتداد فإنّه لن، ولا يمكن أن يتم بوجود القوات الإسرائيلية في قطاع غزّة.
هذا أصبح واضحاً وجليّاً، ومُعترفا به، سواء بالعلن والإعلان، أو بالإيحاء والتلميح، أو بالتستُّر عليه والاستمرار في الكذب بشأنه.
إذا كان ذلك واضحاً وصحيحاً، فكيف سيتمّ القضاء على المقاومة؟ وكيف سيتمّ تغيير الواقع السياسي في القطاع؟
ترتعد فرائص القيادات الإسرائيلية من انكشاف هذه الحقائق، ويتمّ مواصلة الكذب، لأنّ الاعتراف بها يعني دماراً سياسياً على معظم هذه القيادات، وذلك لأنّ أقلّ ما يُقال بهذا الصدد هو أنّ هذه القيادات كانت تعرف بأنّ الحرب لا تحقّق الأهداف المعلنة، وخصوصاً "تحرير" الأسرى، ولن تنهي حركة حماس والفصائل الأخرى، ولن تتمكّن من إعادة سكان "الغلاف" إلى أماكنهم، ولن تزيل التهديد الأمني ــ مرةً وإلى الأبد ــ كما تزعم، وبالتالي فإنّ كلّ الخسائر البشرية والمادية الهائلة لهذه الحرب، إنّما تدور لأسباب تتعلّق بحسابات القيادات الإسرائيلية وليس من بين هذه الحسابات الأسرى، أو الأمن، أو تحقيق الأهداف.
إسرائيل الآن عالقة في قفص اتّهامٍ داخلي، يمثل في الواقع، وعلى المدى المباشر خطراً لا يقلّ عن اتّهامات القفص الأوّل، ومطالباته أقسى على قيادات الحرب والحكومة، وعلى أكثرية أعضاء "مجلس الحرب" من مطالبات المحكمة في لاهاي إذا قبلت بشبهة الإبادة الجماعية.
المقصلة السياسية التي تتعلّق بالقفص الأوّل تطال دولة الاحتلال كلّها، وخصوصاً طبيعة المشروع الصهيوني والأخطار التي باتت تحيط به، أمّا مقصلة القفص الثاني فهي مقصلة الإطاحة بالقيادات الإسرائيلية.
القفص الأوّل سيسرّع من تبعات القفص الثاني، والثاني سيؤدّي إلى تفاقم تبعات الأوّل، وفي الحالتين ستلتقي الأكاذيب المؤسّسة مع الأكاذيب المستحدثة، وستنهار تباعاً كذبة الضحيّة الحصرية مع أكاذيب انتصارات مزعومة وموهومة، والنتيجة حالة فوضى شاملة قادمة في إسرائيل قد لا يرى القائمون على الحرب الآن سوى مخرج واحد ووحيد وهو توسيعها مهما كان الثمن.