يعاني الفلسطينيون في قطاع غزة من ويلات كثيرة تطالهم في حياتهم وأبسط حقوقهم المكفولة لهم بحكم القوانين الدولية، حتى حقهم في حرية الحركة داخل وخارج القطاع مُقيّدٌ إلى درجات كبيرة، ويخضع لرحمة الاحتلال الإسرائيلي وحربه المتواصلة على غزة حتى هذه الساعة.
ابن شمال غزة لا يمكنه التجول بسلام في نطاق مربعه السكني، ولا يمكنه الوصول الآمن إلى جنوب القطاع إلا إذا توقف الاحتلال عن ارتكاب المجازر وقرر منع طائراته الحربية و"زناناته" وكل أسلحته الثقيلة والخفيفة من استهداف الفلسطينيين.
وكذلك الحال بالنسبة لابن غزة الذي يسكن جنوبها باتجاه دير البلح والمغازي وخان يونس ورفح، فهو الآخر معرض كل الوقت للاستهداف المباشر، حيث يتربص الاحتلال بكل تحركات المواطنين وهو من يقرر مصير حياتهم أو موتهم.
المواطن "مُكتّف" لا يشعر بالأمن والأمان، وغير قادر على تلبية المتطلبات الملحة لعائلته من أغذية وأدوية ومياه صالحة للشرب، وإذا قرّر أن يحصل على هذه المستلزمات - وهي نادرة جداً - فعليه أن يخاطر ويكابد ويعاني حتى يجلب ما يتوفر في السوق المحلي. كل هذا تحت مجهر الاحتلال.
نتيجة كل هذه الآلام والمعاناة، التي يتعرض لها الفلسطينيون من قتل متعمد وحرمان من حقهم في الحياة، يلجأ الكثير منهم للخروج من غزة سواء للالتحاق بأسرهم في الدول العربية والأجنبية، أو للوصول إلى بر الأمان والحصول على استراحة مؤقتة أو دائمة من عذاب الأوضاع الكارثية في غزة.
لا يمكن لأي أحد أن يحمل حقيبته ويقرر السفر دون تنسيق أمني يستوجب وضع اسمه على المعبر للدخول من البوابة الفلسطينية إلى الجانب المصري، وكل يوم تصدر كشوفات بأسماء مرضى وجرحى يغادرون القطاع للعلاج في مصر أو بعض الدول العربية.
أيضاً تصدر كشوفات لمن يحملون جنسية مزدوجة أو للأسر التي لديها امتداد عائلي في الدول العربية والأجنبية، وهؤلاء يمكنهم السفر بتنسيق مع سفارات دولهم، وعدا ذلك لا يمكن لأي شخص الخروج إلا بتنسيق أمني.
غير أن تجارة السفر والتربّح منها أمر رائج في معبر رفح منذ سنوات طويلة، إذ تدور حكايا كثيرة عن دفع أموال لتسهيل عمليات السفر من القطاع إلى جمهورية مصر العربية، ولا أحد يعلم من هم السماسرة والتُجار الذين يتحكمون بهذه العملية.
في هذه الأيام، وبسبب الحرب وتداعياتها الخطيرة على المواطنين، يلجأ الكثير منهم للاقتراض ودفع أموال باهظة جداً لشراء سلامتهم وحرية حركتهم. أحد الأصدقاء واسمه محمود خابرني في مكالمة هاتفية والفرحة العارمة تغمره أن زوجته وأولاده وأخاه وعائلته خرجوا لتوّهم من غزة.
بعد السؤال عن أحوالهم وهول ما عايشوه من مصائب ونكبات في رحلة لجوئهم إلى النصيرات وسط القطاع، ونجاتهم بأعجوبة مرتين من تدمير مساكن مجاورة تماماً للمنازل التي لجؤوا إليها، ومن ثم انتقالهم إلى جنوب وسط مدينة رفح، بعد السؤال عن تفاصيل أوضاعهم، صدمني صديقي محمود أنه دفع مبلغ 34 ألفاً وخمسمائة دولار من أجل تسهيل خروج عائلته.
بالتأكيد المال يعوض ولكن العائلة و"العيال" لا يعوضون بأي ثمن، إلا أن محمود كان واثقاً من أن سمسار السفر الذي أتم الصفقة معه، أعطاه تخفيضاً ممتازاً على أساس أن كل شخص بالغ يدفع 11 ألفاً وخمسمائة دولار على شخصه لتأمين التنسيق والسفر، ومن معه من أطفال يدخلون مجاناً.
محمود الذي تهدّم منزله ومنزل والده وأخيه محمد، حصلت أخته المقيمة في بريطانيا على قرض مستعجل لتأمين هذا المبلغ الكبير، على أن يسددوه جميعاً ويتكفلوا مصاريف الإقامة المؤقتة لأسرتهم في مصر، إلى حين انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة.
هناك كثيرون مثل محمود لديهم الاستعداد لدفع آلاف الدولارات لتمكين أسرهم من السفر عبر معبر رفح الحدودي، وهناك أيضاً من لا يملك ترف الدولار وغير قادر على السفر. وبين هذا وذاك تخضع أسماء المسافرين للتدقيق الأمني من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
إسرائيل التي فرضت إغلاقاً تاماً على غزة منذ أكثر من مائة يوم، يشمل ذلك منع جميع المستلزمات الغذائية والصحية والوقود وكل شيء، وكذلك منع الفلسطينيين من حرية الحركة، تتحمل إسرائيل كل هذه المصائب التي تحل بالفلسطينيين.
ومع ذلك لا يحق لأي طرف كان المتاجرة بحرية حركة المواطنين، خصوصاً في هذه الأوضاع الكارثية، إذ يفترض تسهيل مرور المواطنين في السفر وفق الإجراءات المتبعة، بعيداً عن شبكة الوسطاء وسماسرة السفر الذين يعبدون الدولار ولا يكترثون بمآسي وأوجاع الفلسطينيين.