بعد أن صار كلُّ شيءٍ واضحاً

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 


ثقيلة تمرُّ الأيّام، محمّلة بآلام لم يعهدها بشر، وبآمال حلم بها الكثير من البشر، ومن حقّ الشعب الفلسطيني أن يحلم بتحقيقها.
لحظة الفلسطيني تضاهي أيّاماً بل أكثر ممّا يعيشه البشر، حتى من منهم يعاني من قساوة الظروف ومحدودية الإمكانيات للتغلُّب على تلك الصعوبات.
قرأنا، وعشنا مع حروب وصراعات مديدة دامية، لكنها لا تشبه ما يعيشه الشعب الفلسطيني. لا القاتل يشبه كلّ القتلة، ولا الضحيّة يشبه كلّ الضحايا. يشبه كلّ طرفٍ نفسه، ذلك أنّ نوع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الإحلالي لا يشبه أشكال الاستعمار التي عرفتها البشرية، والشعب الفلسطيني يتميز من حيث حيويته، وإصراره، وقتاله، ودفاعه عن حقوقه ووجوده.
يقاتل الشعب الفلسطيني حلفاً استعمارياً ظالماً، كبيراً وواسعاً، وقدرات هائلة على القتل والتدمير تقف على رأسه من تعتبر نفسها حتى الآن سيّدة العالم وكأنّها الحاكم بأمره.
يحقّ للمرء أن يتساءل ما إذا كانت هذه الحرب، واحدة من ساحات الحرب العالمية، التي تدور رحاها في غير مكانٍ من العالم، طرف يسعى بكلّ قوّة للدفاع عن ظلمه ونظامه، وقيمه، وآخر يكمل ما تقوم به قوى أخرى تسعى لتصحيح تعرُّجات التاريخ، ومحاربة التزييف الهائل في القيم.
ولكن إذا كان الأمر هكذا، فلقد انقسم العالم حول الفصل الروسي الأوكراني من الحرب العالمية، فلماذا يغيب هذا الانقسام عن هذا الفصل، فلا تتحرّك الأطراف الساعية للتغيير إلّا في حدود الكلمات؟
قوى نووية تمتلك إمكانيات هائلة، تواجه معسكر الظلم، وتدفع أثماناً باهظة، وتستمر في القتال، ودفع المزيد من الأثمان، ولكن لا روسيا ولا أوكرانيا، شهدت أو أنّها تشهد ما يواجهه الشعب الفلسطيني في هذه الحرب.
لم نسمع ولم نشهد في ساحات الحرب الروسية الأوكرانية سقوط مئات القتلى والجرحى، الذي تشهده ساحة الحرب على فلسطين.
لم ترَ البشرية في عصرها الحديث وحشية كالتي تمارسها آلة القتل والتدمير الأميركية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني.
أين سمع البشر أو شاهدوا، أنّ قوى الظلم تسقط كلّ هذا الكمّ الضخم من وسائل القتل على بقعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة مدينة متواضعة؟
أين حصل أن استخدم القاتل الطعام والدواء، والماء والوقود والحصار، ووسائل الاتصال والتواصل التي تقتل الأحياء وهم على قيد الحياة، يفتقرون حتى للهواء النقي؟
تختلط أعضاء البشر المقطّعة، مع قطع خيام النايلون، وما تبقّى من طعامٍ، تتطاير كلّها في الهواء، بينما تبقى الكلمات، ويسود صمت مريب، لا تبدّده صرخات المستغيثين بمعتصمٍ لا جود له.
تتبدّل الكلمات على ألسنة القتلة وغير القتلة، من الشهود الصامتين ولا تتبدّل الأفعال، فالقتل بمعدّلات مرتفعة لا يزال يحصد مئات الأبرياء يومياً، والمساعدات التي يطالب بها البعض، لا يصل منها إلّا ما يساوي قطرة في محيط الاحتياجات، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ولا يصل منها شيء، في شمال قطاع غزّة.
هناك في شمال القطاع الذي تفصله الدبّابات الإسرائيلية عن جنوبه، يتساءل الناس ما إذا كان يحلّ لهم أكل القطط، وكثير منهم يخلطون علف الحيوانات مع قليلٍ من الدقيق، وتستمرّ المطالبة دون جدوى، بزيادة إدخال المساعدات، والإسراع في توفيرها لكلّ المحتاجين لها.
القيم التي راكمتها البشرية تنهار أمام قيم الظلم، فلا قانون دولياً ولا قانون إنسانياً، ولا مواثيق لحماية المستشفيات والأطباء أو رجال الإسعاف، أو الصحافيين. الكلّ في غزّة مستهدف بالقتل، فالحياة ممنوعة في هذا الشريط الصغير.
لماذا مؤسّسات العدالة الدولية، إن كانت هذه حريصة أو قادرة على إقامة ميزان العدل بحاجةٍ إلى أدلّة، وأوقات طويلة من الفحص والبحث لكي تصل أو لا تصل إلى أنّ الحلف الأميركي الإسرائيلي يمارس فعلياً الإبادة الجماعية؟
كلّ شيءٍ واضح، وأكثر أمام الأعمى والبصير، فلماذا التلكُّؤ في قول الحقيقة؟
محكمة العدل الدولية بإجماع أعضائها تقريباً رفضت الاعتراض الإسرائيلي، بشأن اختصاص المحكمة، وأصدرت جملةً من الأوامر العاجلة لتخفيف وطأة الكارثة، وفي بطن الحديث وظاهره اعتراف بالتهمة الموجّهة للقاتل الإسرائيلي، فهل سينتصر العالم لأحكام العدالة؟
مسبقاً الإدارة الأميركية أعلنت أنّه لا أسباب معقولة للاتهام الذي وجّهته جنوب إفريقيا لإسرائيل بجريمة الإبادة الجماعية، وكذلك فعلت دولة الاحتلال قبل وبعد قرار المحكمة، الجمعة المنصرم.
بل إن إسرائيل تسخر من المحكمة، ومن قضاتها، ولا يكلف رئيس وزرائها نفسه باستخدام لغة دبلوماسية في رفضه لقرارات المحكمة، وعزمه على مواصلة جريمة الإبادة الجماعية تماماً كما دأبت إسرائيل على فعلها قبل المحكمة وقراراتها.
نتنياهو واثق أنّ قرارات المحكمة ستظلّ في القاعات، ولا تفعل سوى أن تضيف مصطلحات جديدة على البيانات والتصريحات التي تصدر عن الصامتين إلّا بالكلام.
لا بأس إذا كان الأمر هكذا لم يعد من خيارٍ أمام الفلسطينيين سوى الصمود والمقاومة، على أرضهم ومن أجل إرغام العالم على الاعتراف بحقوقهم.
قالت بعض الدول "الغربية" المنخرطة إلى جانب إسرائيل: إنّ القرارات ملزمة، ودعت إلى الإسراع في تنفيذها.. لكنها ليست مستعدّة لأن تفعل شيئاً من أجل الانتصار لعدالة دولية تكشف زيف ادّعاءاتها وقيمها.
بالتوازي مع الرفض الإسرائيلي لقرارات محكمة العدل الدولية، تبادر الإدارة الأميركية إلى وقف تمويلها لـ"الأونروا"، ويتبعها في ذلك، أذيالها من الدول "الغربية"، بدعوى أنّ عدداً من موظفي الوكالة هم منتمون إلى "حماس"، رواية أخرى كاذبة تقدّمها إسرائيل وتتبنّاها الدول "الغربية" المنخرطة في الحرب على غزّة، لإضفاء الشرعية على حرب التجويع التي تمارسها دولة الاحتلال، وربما للقضاء على هذه المؤسّسة الدولية، في إطار سعي هذه الأطراف لشطب حق العودة للشعب الفلسطيني.
لا رسّام، ولا شاعر، ولا أديب، يستطيع أن يعبّر عن نوع وحجم الآلام والعذابات التي يعاني منها سكّان قطاع غزّة، ولكن هنا شعب لا يُقهر.
كم تريد إسرائيل وحلفاؤها أن تقتل من الفلسطينيين؟ سيبقى أكثر من مليونَي إنسان مدجّجين بإرادة فولاذية، على البقاء ومواصلة المقاومة حتى لو أصاب "حماس" وفصائل المقاومة ما أصابها.
يتميّز القاتل بوحشية غريبة غير مسبوقة، ويتميّز الشعب الفلسطيني بإرادةٍ وقدرة، على تجاوز قساوة الحياة هي الأخرى غير مسبوقة، فأين سيذهب "مجتمع المرتزقة" من هذا الشعب؟