كأنّ المشهد اقتطع من مسرحيات «اللامعقول» حيث تبدو الديمقراطية الأميركية شبه عاجزة عن إنتاج وجوه وأفكار جديدة في عالم يتغير.
نفس المرشحَين جو بايدن ودونالد ترامب، ونفس أجواء الكراهية ودرجة الاستقطاب، التي سادت انتخابات 2020 تُستأنف الآن.
يوشك ترامب أن يحصد بطاقة الترشح باسم الحزب الجمهوري فيما يشبه الاكتساح.. ولا يوجد اسم بارز في صفوف الحزب الديمقراطي ينازع بايدن على الترشح باسمه.
الأجواء الانتخابية عبرت في المرة الأولى عن صدامات محتدمة في بنية المجتمع، واصلة إلى تساؤلات قلقة عن مستقبل القوة العظمى الوحيدة، وإذا ما كان ممكناً وقف التدهور الحاصل في مكانتها الدولية إثر سياسات ترامب.
هذه المرة، تعاود الأسئلة القلقة طرح نفسها في انتخابات 2024، في بيئة دولية مختلفة تتعرض فيها الولايات المتحدة إثر سياسات بايدن لهزيمتين إستراتيجيتين بتوقيت واحد في حربَي أوكرانيا وغزة.
بدت المواجهة الانتخابية الأولى أقرب إلى استفتاء على ترامب، فيما تبدو الثانية استفتاء عكسياً على بايدن.
خسر ترامب ذلك الاستفتاء بدواعي الغضب على سياساته وتصرفاته أثناء جائحة «كوفيد 19»، التي تنكرت لما يفترض أنها من واجبات أي قيادة مفترضة.
بذريعة «أميركا أولاً» أفرط في الانسحاب من المنظمات الدولية، أو وقف التمويل عنها كـ«الصحة العالمية» و«اليونسكو» و«الأونروا»، ملوحاً بانسحاب مماثل من حلف «الناتو» إذا لم تدفع الدول الأوروبية حصصاً أكبر في موازنته وتكاليف تسليحه وتدريبه وعملياته.
كما استدعت سياساته وتصرفاته صدامات منذرة مع الحريات الصحافية والإعلامية، وصدامات عرقية كادت تدخل البلد كله في احتراب أهلي.
كان أسوأ ما جرى محاولة بعض أنصاره اقتحام مبنى «الكونغرس» بتحريض ظاهر منه لمنع نقل السلطة إلى الرئيس المنتخب، كما لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة من قبل.
رغم سجله السيئ، الذي أفضى إلى خسارته الانتخابات الرئاسية الماضية، فإن استطلاعات الرأي العام ترجح خسارة بايدن أمامه في الانتخابات المقبلة.
فشل بايدن العامل الرئيس في إعادة تعويم ترامب.
ماذا قد يحدث إذا ما استبعد ترامب من السباق الرئاسي بقرار قضائي؟!
إنها الفوضى في بنية النظامَين السياسي والقانوني الأميركيَّين، ولا أحد بوسعه أن يتكهن بما بعدها.
حسب الاستطلاعات نفسها، فإن قطاعاً كبيراً من الناخبين الشباب والسود، الذين صوتوا لصالح بايدن قبل حوالى أربع سنوات، قد خسرهم هذه المرة.
كانت إدارته لحرب غزة أحد الأسباب الجوهرية في تراجع شعبيته، حيث وفر دعماً مطلقاً لحرب الإبادة الإسرائيلية التي تجري في القطاع المحاصر.
جرت العادة تقليدياً في أي انتخابات أميركية أن تحسم نتائجها بالأولويات الداخلية، أو ألا يكون للسياسة الخارجية دور كبير في توجهات التصويت.
تختلف الحسابات هذه المرة حيث قد تلعب السياسة الخارجية أدواراً غير معتادة في تقرير مصير الانتخابات المقبلة.
كان خروج مئات الألوف مرة بعد أخرى، إلى شوارع المدن الكبرى بالأعلام الفلسطينية داعية إلى وقف إطلاق النار فوراً، تطوراً جوهرياً في الحسابات الانتخابية حيث ينتمي معظمهم إلى قواعد الحزب الديمقراطي، الذي يترشح «بايدن» باسمه.
طاقة الغضب قد تحسم توجهات التصويت بالنظر إلى التوازن الحرج بين الرئيسَين المثيرَين للجدل، الحالي والسابق.
المثير هنا أن ترامب أقرب إلى إسرائيل من بايدن، وخياراته تميل إلى استبعاد حل الدولتين بمبادرات مثل «صفقة القرن»، التي تولى الإشراف عليها صهره جاريد كوشنر قبل إجهاضها بإجماع فلسطيني نادر.
بدت «صفقة القرن» بأفكارها وتوجهاتها نزعاً لأي طموح فلسطيني في سيادته على أرضه المحررة مقابل تحسين أوضاعه المعيشية.
بصياغة أخرى يتبناها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن تلك الصفقة كانت تعني «السلام مقابل السلام»، لا انسحاب من أرض ولا كلام عن دولة!
معضلة بايدن، في سباقه مع الوقت، أنه يبدو شبه مقيد باعتراضات نتنياهو على خططه وتصوراته لليوم التالي من حرب غزة.
لا يقدر على التصعيد ولا يحتمل استمرار الوضع الحالي، ما قد يكلفه مقعده في البيت الأبيض.
يسعى بايدن، من خلال تواصله مع المكونات الداخلية الإسرائيلية، إلى إحداث تغيير ما في معادلة السلطة بإزاحة نتنياهو.
في الوقت نفسه، يسعى نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب بأمل أن يحرز، أولاً، اختراقاً عسكرياً يسوّقه كنصر في غزة يجنبه فاتورة الحساب بعدها عن مسؤوليته عمّا حاق بإسرائيل في 7 أكتوبر وما بعده من فشل عسكري ذريع، بالإضافة إلى إبعاد شبح الزج به خلف قضبان السجون بتهمتَي الفساد والرُّشى.
ثم يأمل أن يحسم، ثانياً، حليفه الوثيق ترامب الانتخابات الرئاسية وتتغير الحسابات الدولية بصورة أكبر وأبعد مدى مما ذهبت إليه إدارة بايدن.
يستلفت النظر هنا الطريقة التي ينتهجها ترامب في استثمار أزمة بايدن لإلحاق الهزيمة الانتخابية به.
«ليس لدينا أحد يقود».
كان ذلك جوهر انتقاده لأداء بايدن في إدارة حرب غزة.
لم يتصادم مع الحقائق لكنه حاول إعادة صياغتها.
«على إسرائيل أن تفعل شيئاً على جبهة العلاقات العامة».
كان ذلك تلخيصاً مخلاً لمظاهر الغضب على جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين، كأنها محض مسألة علاقات عامة!
«ما حدث ما كان ينبغي أن يحدث.. إنه أمر فظيع على الجانبين».
هكذا حاول أن يوازن خطابه بين نقد مخفف لإسرائيل ونقد خشن لـبايدن دون تغيير في بوصلته المعتادة.
إنها الانتخابات وحساباتها، رغم أنه الرئيس الأميركي الذي قرر على عكس أسلافه نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، متبنياً التوسع الاستيطاني إلى أبعد حد والمعاهدات الإبراهيمية دون سلام أو انسحاب من أراض محتلة.
في استثمار مماثل لورطة غريمه بايدن في أوكرانيا، قال: «لو كنت موجوداً ما حدثت هذه الحرب».
دعا إلى «أن يتوقف الجميع عن الموت»، مركزاً على حجم الخسائر الاقتصادية الفادحة جراء التورط فيها.
التفاعلات الداخلية سوف تأخذ مداها قبل أن تحسم صناديق الاقتراع نتائج المواجهة الانتخابية الثانية بين بايدن وترامب.
لا يجدي الرهان على أحدهما، هذه حقيقة سياسية.
ولا يصح أن ننسى أن التضحيات الهائلة التي بذلها الفلسطينيون، والتعاطف الإنساني معها، أعادا إحياء أعدل القضايا الإنسانية المعاصرة داخل الولايات المتحدة نفسها.
هذه حقيقة سياسية أخرى، فلا شيء مجانياً.