تضمنت وثيقة «حماس» بعض المراجعة النقدية، واعترفت بوجود «بعض الخلل غير المقصود، وحدوث فوضى أثناء تنفيذ عملية طوفان الأقصى»، لكنها لم ترتقِ إلى الحد المطلوب من النقد الذاتي.
من غير الواضح إن كانت الوثيقة ستمثل مرجعية «حماس» في معركة «طوفان الأقصى»، أم أن الحركة ستظل مرتكزة على خطاب الضيف؟ علماً أن التباين كبير وشاسع بين الوثيقتين.
في البند الأول، تم تقديم موجز تاريخي لنشوء القضية الفلسطينية، منذ بدايتها، مروراً بالنكبة، وصولاً إلى النكسة، وانتهاج إسرائيل الاستيطان ومصادرة الأراضي والفصل العنصري، وحصار غزة، وانتهاك المقدسات، والقمع والاعتقال.
وفي البند الثاني، قدمت رداً على ادعاءات وأكاذيب الاحتلال ودحضاً لمزاعمه حول أحداث 7 أكتوبر. وربما يكون هذا البند هو الهدف الأهم من إصدار تلك الوثيقة، ما يضفي عليها صفة الدفاع والتبرير، على عكس خطاب الضيف الذي جاء هجومياً.
وفي البند الثالث، مطالبة بإجراء تحقيق دولي نزيه، وتم التأكيد على أهمية البعد القانوني للقضية الفلسطينية، وأهمية الرأي العام العالمي، وهنا نلمح تطوراً مهماً في خطاب الحركة، باتجاه تشكل حالة وعي أكثر نضوجاً لفهم المعادلات السياسية الدولية التي تحكم الصراع. وقد طالبت الوثيقة من العالم دعم مسار محكمة العدل الدولية، ما يشكل عنوان توافق فلسطيني وإقراراً بأهمية المسار الدبلوماسي والقانوني.
وفي البند الرابع، تذكير للعالم بمن هي «حماس»، وتعريف عن نفسها بأنها «حركة تحرر وطني ذات فكر إسلامي وسطي معتدل، تنبذ التطرف، وتؤمن بقيم الحق والعدل والحرية، وتحرّم الظلم، وترفض الإكراه الديني». وفيها تأكيد على وثيقة «حماس» 2017، والتي يمكن فهمها تبنياً للعلمانية؛ حيث أنّ كلتا الوثيقتين «تؤمن بالحرية الدينية والتعايش الإنساني الحضاري، وترفض الإكراه الديني، وترفض اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي».. وما هذا سوى شكل من العلمانية، وهذا يستدعي السؤال: بماذا اختلفت بذلك عن «فتح» أو منظمة التحرير؟!
جاء البند الخامس بعنوان «ما المطلوب؟»، وتم فيه عرض لما يمكن القيام به على كافة الأصعدة لتفويت الاستهدافات الإسرائيلية. ورغم أهميته، كان يُفترض طرح مشروع للالتقاء الوطني، والبدء بتطبيق إجراءات المصالحة، واقتراح مخرج من الكارثة، وبالاتفاق على البرنامج الموحد والتمثيل الموحد.
عموماً، يمكن رصد الملاحظات التالية على الوثيقة:
الأولى، ما جاء في بند لماذا «طوفان الأقصى»؟ ذكرت سبع نقاط، وهي بالمجمل عموميات معروفة، وتصلح لسؤال: لماذا انطلقت الثورة الفلسطينية أصلاً؟ لكن الوثيقة ذكرت التاريخ الفلسطيني بالنقطة الأولى فقط، ثم أهملت مراحل الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها وبكافة أشكالها، بما يوحي بأن المقاومة بدأت في 7 أكتوبر، أو مع ظهور «حماس».
وتتساءل الوثيقة: «هل كان المطلوب من شعبنا أن يواصل الانتظار والرّهان على الأمم المتحدة ومؤسساتها العاجزة، أم أنّ الردّ الطبيعي هو مبادرة شعبنا للدفاع عن أرضه وحقوقه ومقدساته؟!».. وهنا إيحاء بأن الشعب الفلسطيني طوال العقود الماضية كان فقط ينتظر ويراهن على الأمم المتحدة (العاجزة)، ولم يكن يفعل شيئاً، حتى جاء «طوفان الأقصى»!
الثانية، تكرار عبارة «المدنيين الإسرائيليين» 10 مرات، وتأكيد الحركة «تجنب استهداف المدنيين»، ومع أن ذلك ليس جديداً، إذ ذكر مراراً على لسان قادة الحركة.
الثالثة، تميز الوثيقة بين اليهود والصهيونية، رغم أن الحركة وصلت إلى هذا الفهم متأخرة جداً، ومع ذلك فهذه نقلة إيجابية، ومهمة، سيما أن تلك الفكرة ذكرت 6 مرات في الوثيقة، بتأكيدها أنّ «الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم، وإنما تخوض صراعاً ضد الصهاينة لأنهم محتلون يعتدون على شعبنا وأرضنا ومقدساتنا».
الرابعة، تبنّي «حماس» مشروع الدولة الفلسطينية، التي وردت 4 مرات، كهدف، وكحق مشروع، وكأحد دوافع «طوفان الأقصى»؛ علماً أن «حماس» كانت ضمنتها في وثيقتها الصادرة في 2017، وفي تصريحات قادتها، ما يطرح سؤالاً مشروعاً عن أسباب الانقسام الفلسطيني، واستمراره، الذي طالما بررته الحركة بتمسكها بهدف تحرير فلسطين، وبالكفاح المسلح حصراً كطريق لذلك. (ماجد كيالي، «طوفان الأقصى بين روايتين»).
الخامسة، تؤكد الوثيقة أن «حماس» تعمل وتناضل وفق القانون الدولي والمواثيق والمعاهدات الدولية، من حيث مشروعية الأهداف والغايات والوسائل، وتستمد شرعيتها في مقاومة الاحتلال من حق شعبها الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وفي السعي للتحرر وتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال بالانسجام مع القوانين الدولية، مع الحرص على حصر معركتها ومقاومتها مع الاحتلال الإسرائيلي وعلى الأراضي المحتلة. وهذا أيضاً تغيّر إيجابي في خطاب «حماس» حيث أنها سابقاً لم تكن تعتني كثيراً بالجانب القانوني، والهيئات الدولية.
وعن أهم الفروقات بين الوثيقة وخطاب الضيف، من الواضح أن الوثيقة تجنبت، وربما أهملت خطاب الضيف، وتجاوزته إلى حد ما. يبدو هذا من خلال تباين اللغة والأسلوب والأولويات، ونبرة الخطابة بين الوثيقتين؛ حيث أتى خطاب الضيف في مرحلة الهجوم، وكثرت فيه تعابير الهجوم والقتال، مثل: «لتفهموا هذا العدو المجرم أنه انتهى زمنه». «واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم». «قاتلوا، والملائكة سيقاتلون معكم». «اليوم يومكم لتكنسوا هذا المحتل ومستوطناته عن كل أرضنا في الضفة الغربية». «نظموا هجماتكم على المستوطنات بكل ما يتاح لكم من وسائل وأدوات». «أشعلوا الأرض لهيباً تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلاً وحرقاً وتدميراً». «ابدؤوا بالزحف اليوم، الآن وليس غداً». «كل من عنده بندقية فليُخرجها، ومن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته».
في خطاب الضيف، ثمة جزم ويقين بأن اللحظة الراهنة هي لحظة إزالة الاحتلال، أي أنها مرحلة الانتصار والهجوم، وهذه هي الفكرة الأساسية التي وقفت وراء «طوفان الأقصى»، مع رهان على «وحدة الساحات»، ورهان على الفلسطينيين والعرب والمسلمين من دون قراءة متبصرة لواقع الشعب الفلسطيني وواقع الأمّتين العربية والإسلامية.
في الوثيقة والتي أتت في مرحلة الدفاع، تم ذكر تعبيرات عمومية عن المقاومة، وحق المقاومة، ومشروعيتها..إلخ. ولم تُذكر أي عبارات تدعو للقتال والزحف والتدمير والحرق، كما جاء في خطاب الضيف.. وكل نداءات الضيف لمحور المقاومة للالتحام في المعركة، وللشعوب العربية الإسلامية ولأحرار العالم بالزحف واجتياز الحدود والتظاهر وضرب الاحتلال بكل ما تيسّر من أدوات.. كل هذا لم يظهر في الوثيقة، وكل ما جاء فيها نداء لدول العالم: «إنّ الواجب الإنساني والأخلاقي والقانوني يفرض على دول العالم دعم مقاومة الشعب الفلسطيني وحمايتها. وبعد الحديث عن كنس الاحتلال وتحرير الأقصى، صار مطلب الوثيقة «وقف العدوان فوراً على غزَّة».