أسئلة الحرب (10)

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

تفرض تعبيرات، كالإبراهيمي، نفسها على لغة السياسة بقدر ما تكون أداة للتمييز، وفي مسعى اختزال دلالات في مفردة واحدة. فالكلام عن "العرب" و"عالم عربي" مثلاً، لا يقل غموضاً وإشكالية عن الكلام عن "الغرب". ففي "العالم العربي" جماعات إثنية وقومية غير عربية كالأمازيغ والأكراد، وتباينات حضرية وحضارية شطبتها قومية البعث، وبقيت قومية أنطون سعادة، واستيهامات مُنشقة كالفرعونية المصرية والفينيقية اللبنانية، شاهدة عمّا يسكنها من توترات تزعزع النزعة المساواتية، والغموض غير البنّاء، لتعبيرات كهذه.
وفي الغرب إثنيات وقوميات وثقافات ولغات تبدد الطمأنينة الدلالية لتعبير "الغرب"، ولا تُبقيه قيد التداول إلا بوصفه نوعاً من التعميم. هل "الغرب" كينونة جغرافية أم ثقافية، أم سياسية؟ تيرانا الألبانية غرب، وبوخارست الرومانية غرب، وموسكو وسانت بطرسبرغ الروسيتان غرب (خلافاً لروسيا الآسيوية) السلاف والجرمان والقوط غرب (بل وحتى إسرائيل تزعم الانتماء إلى الغرب) والكنائس الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية غرب. فأين الغرب الذي يكثر الكلام عنه من هذا كله؟
ولنقل: يستمد تعبير الإبراهيمي، وما يحتمل من اشتقاقات لغوية، أهميته من ضرورة التمييز بين مكوّنات مختلفة لكينونة اسمها العالم العربي. هذا يستدعي تحرير التعبير نفسه من سوء فهم محتمل. فأوّل ما يتبادر إلى الذهن، في تعريف ما هو الإبراهيمي، أن الديانات التوحيدية تُعرف بالإبراهيمية، أيضاً، نتيجة انتسابها، حسب السردية الدينية، إلى جد مشترك. ويبدو أن ما عُرف بالاتفاقات الإبراهيمية، التي أشرف عليها الرئيس الأميركي ترامب في آب (أغسطس) 2020، تحتل المرتبة الثانية فيما قد يتبادر إلى الذهن من اقتران الدلالات.
وهذا، في الحالتين (ولنا عودة في الختام) صحيح، ولكن بشكل محدود جداً، وفي مرتبة أدنى مما سيأتي بيانه: (1) فالرافعة الموضوعية الأولى، والحشوة الدلالية، إن شئت، تتمثل في هامشية ديموغرافيا، وجغرافيا، ما نُعرّفه بالهوامش الصحراوية، التي لم تعرف، على مدار قرون بعيدة ومديدة، دولة مركزية، ولا نشأت فيها حضارة تُذكر. البلاد اليمانية هي الاستثناء التاريخي الوحيد.
(2) أما الثانية فتتجلى في تشابه في الخصوصيات الاجتماعية، وأنظمة الحكم، والثقافة السائدة. بنيتها قبلية في المقام الأوّل. هي ليست ملكيات مطلقة وحسب، بل وهجينة أيضاً، بقدر ما يتجلى الأمر في المظاهر الإدارية، وأنظمة الدولة الحديثة من ناحية، وعدم الاعتراف (مع استثناءات قليلة ومحدودة جداً) بوجود حقل مستقل للسياسة (بما يعني من برلمان ودستور وانتخابات ومعارضة وأحزاب) مقابل هيمنة مطلقة للحقل الديني، من ناحية ثانية.
(3) والثالثة هي الحاجة التقليدية إلى حماية خارجية منذ زمن الإمبراطورية الرومانية. في الأزمنة الحديثة، مارست الإمبراطورية البريطانية هذا الدور، على مدار قرنين من الزمن، وانتقل الولاء بعد انهيارها إلى الإمبراطورية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه الخصوصية فرضت الانخراط في الحرب الباردة إلى جانب الأميركيين، بما يشمل مكافحة الأفكار والكيانات الراديكالية في العالم العربي، ومكافحة الروس في أفغانستان. وقد كان للأمرين تداعيات ونتائج كارثية على الحواضر العربية.
(4) أما الرابعة فلا تنحصر في ثروة غير مسبوقة في التاريخ وحسب، بل وفي حقيقة أنها نجمت عن صدفة جيولوجية، أيضاً. ولأمر كهذا أهمية استثنائية بالنظر إلى العلاقة العضوية بين العمل (الجهد العضلي، والعقلي) والثروة، وما لعلاقة كهذه من تداعيات اجتماعية وثقافية وسياسية أسهمت في نشوء الدولة والمجتمع الحديثين. لذا، ثمة ما يستدعي التفكير في التداعيات بعيدة المدى الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، للحصول على، ومراكمة الثروة، مع غياب شرط العمل.
وبقدر ما أرى، فلن نتمكن من فهم دلالة هذا كله، وما ينجم عن هذا الخليط، ما لم نسع إلى فهمه وتحليله وتأويله، على خلفية علاقته بالعالم، أي حركة وتحوّلات الرأسمالية العالمية في زمن العولمة. فالظاهرة الإبراهيمية، مع كل ما ذكرنا من سمات، وبحكم ما تراكم لديها من ثروة غير مسبوقة، وسيولة مالية هائلة، صارت مع مطلع ألفية وقرن جديدَين رأسمالية طرفية تعمل في حالات مختلفة وكيلاً وشريكاً لرأسمالية عالمية، متعددة الأطراف، فعلاً، وإن كانت محكومة بالمركز الأميركي في كل الأحوال.
مشكلة الرأسمالية العالمية (يتحكم ثلاثون بالمائة من سكّان العالم بخمسة وتسعين بالمائة من ثرواته) هي الافتقار، في سوق تشبّعت، لمجالات مضمونة ومُربحة لاستثمار ما تراكم من تريليونات الدولارات، لذا تستثمر في مضاربات مالية، وعقارية (نجمت عنها الأزمة المالية العالمية 2008) وفي الحروب، بما فيها صناعة وسوق السلاح، وإعمار ما دمّرته.
ولنفكر في سياق كهذا، في شراء الأندية الرياضية والمصارف والعقارات في أميركا وبلدان أوروبية، ومحاولة شراء أصول لبلدان في الإقليم، وفي حروب الثروة المضادة بعد ثورات الربيع العربي، بما فيها الحروب الأهلية، وطفرة المشاريع الإنشائية العملاقة في بلدان تشكو تردي الخدمات الصحية والتعليم، من زوايا مختلفة في القلب منها ما يمثل فرصة استثمارية لرأسمالية طرفية تعولمت، دون التقليل، بطبيعة الحال، من استشراء الميغالومانيا، وتجلياتها في الثقافة والسياسة والإعلام.
وفي سياق كهذا، أيضاً، نرى كيف تتموضع العلاقة بإسرائيل، التي لا تصعد بها قوتها وصناعاتها الأمنية والعسكرية، وعلاقتها الاستثنائية بالأميركيين والأوروبيين، إلى دور الحامي، وحسب، بل تحول علاقاتها المتشابكة، والأكثر عضوية، بالرأسمالية العالمية، دون تجاهلها. وبما أن للحقل الديني (حتى في صورته الراهنة المُحسّنة) هيمنة على المخيال العام، بما يعني من قداسة، وشرعيات، لا تحتمل الجدال، فمن المنطقي استعارة جد مشترك كإبراهيم بوصفه غطاءً رمزياً للعلاقة، والاستعانة بصلة للقربى، مستمدة من الحقل الديني نفسه لتبرير عناق متأخر بين أبناء العمومة. فاصل ونواصل.