الــصــــدمــــة

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

عندما قام مارتن لوثر بفضح مظاهر البذخ والإسراف التي كانت تنعم بها الفاتيكان، وقام بترجمة الإنجيل إلى اللغات الأخرى، أحدث صدمة لدى عامة المسيحيين في أوروبا، فنزع عن الكنيسة قداستها، وجرّد البابا من سطوته، وهذا قاد إلى موجة من الحروب الدينية، وهذه الحروب الدينية لشدة أهوالها أحدثت صدمة لدى الناس مرة ثانية، وهذه الصدمة مهدت الطريق لعصر التنوير والثورة الصناعية والحكم المدني والديمقراطية.
عند بدء الحرب العالمية الأولى كان الجنود يذهبون إلى ميادين القتال وهم يضحكون وفي قمة حماستهم، وعندما تم اقتيادهم إلى الحرب العالمية الثانية كانت وجوههم عابسة ومرتجفة، وفق دراسة علمية مرفقة بالصور لمعرفة آثار صدمة الحرب وأهوالها على معنويات الجنود.  
كما أحدث ظهور النازية والفاشية صدمة أدت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، أحدثت نتائج الحرب المدمرة والكارثية صدمة أخرى أكبر وأهم، أدت إلى ظهور عالم ما بعد الحرب، أي أوروبا المستقرة والهادئة والمتطورة.. (والتي تحاول التخلص من عنصريتها).
كما أحدثت قنبلتا هيروشيما وناغازاكي واستسلام الإمبراطور صدمة كبرى لدى اليابانيين، أدت إلى بزوغ فجر اليابان كما نشهدها الآن.
الصين أيضاً تعرضت لصدمات عنيفة، جعلتها تمتنع عن خوض أي حرب طوال السبعين عاماً المنصرمة، فصارت القوة الأولى عالمياً.
رواندا تعرضت لأعنف صدمة، حين خاضت حرباً أهلية أدت لمقتل مليون إنسان في غضون أشهر قليلة، لكنها استفادت من الصدمة، وحققت عدالة انتقالية ومصالحة مجتمعية، وصارت اليوم أسرع دولة إفريقية في النمو الاقتصادي، وأكثر دولة تنعم بالاستقرار والازدهار.
كل الشعوب تعرضت لصدمات عنيفة، وحدها الشعوب الحية التي استفاقت من الصدمة، وفهمت أسبابها ومخاطرها وتعاملت معها بالشكل الصحيح، فنهضت وتطورت؛ لأنها راجعت تاريخها، وعرفت أخطاءها، واعتذرت لنفسها أو لغيرها عن ماضيها المخزي، وأخذت تتطلع نحو المستقبل، وما زالت تراجع نفسها عبر عمليات تقييم ونقد ذاتي موجعة وشجاعة.
إلا الأمة العربية الواحدة؛ فرغم أنها أكثر أمة تعرضت للهزات والصدمات والهزائم العسكرية والاحتلالات، إلا أنها ما زالت تحرّم أي نقد ذاتي، وتمتنع عن مراجعة ماضيها، وبدلاً من تطلعها نحو المستقبل تتطلع إلى الماضي البعيد، مشدودة بأحباله المتينة. الماضي عندها مقدس، ولا يجوز المساس به، الماضي كان عصراً ذهبياً، وعليها استنساخه حرفياً. الماضي برجاله وأفكاره وأدواته وأساليبه وشعاراته عليها جره إلى الحاضر، أو أن تعود إليه.
وقد أخفقت هذه الخيارات لأنها اصطدمت بأربع مشكلات: الأولى أن الماضي لم يكن بتلك الصورة المثالية التي نعتقدها، وإذا تخلصنا من القراءة الانتقائية للتاريخ سنجده مليئاً بالصراعات والحروب والفتن والمثالب، وكل ما نفخر به من منجزات علمية وحضارية لم تكن سوى ومضات مشرقة هنا وهناك. الثانية فكرة أن رجالات وعلماء وقادة تلك العصور القديمة كانوا ملائكة وقديسين وعباقرة فكرة غير دقيقة، ولا تنسجم مع أبسط قواعد علم النفس الاجتماعي. الثالثة: استنساخ الماضي أو العودة إليه أو جره للحاضر فكرة غير علمية وغير واقعية وتتناقض كلياً مع أبسط قواعد سوسيولوجيا المجتمعات وحركة التاريخ. الرابعة أن الاعتماد على الأوهام والوقائع المتخيلة والتفكير الرغائبي لن يؤدي إلا إلى المزيد من التراجع والانهزام والانعزال عن العالم، وعن حركة التاريخ.
دون عملية نقد ذاتي جريئة وموضوعية، ومراجعة أمينة لكل تاريخنا، ودون أن نتحرر من أوتاد التاريخ الثقيلة، ومن سطوة الشعارات وتقديس الرموز، ونتطلع بحرية وشجاعة نحو المستقبل، لن نحرز سوى المزيد من الهزائم.
لكن الصدمة عند الفلسطينيين لم تكن دوماً سلبية، ولا أقول إن الفلسطينيين استثناء، لكن وقائع التاريخ تزودنا دوماً بما نحتاجه لفهم الحاضر. النكبة شكلت صدمة كبرى، لكنها أنتجت الثورة. هزيمة حزيران كانت صدمة، لكنها صارت سبباً لتصاعد الثورة وتناميها. خروج قوات الثورة من بيروت شكّل صدمة، لكنه أنتج الانتفاضة الأولى. فشل مسار أوسلو أحدث صدمة، لكنه أدى إلى انتفاضة الأقصى. انسداد الأفق السياسي وتعنت إسرائيل وتجاهل العالم لقضية فلسطين ومعاناة شعبها كان صدمة، لكنها خلقت "طوفان الأقصى".
اليوم، نحن أمام صدمة كبرى. سقوط عدد كبير جداً من الشهداء يفوق بأضعاف عدد من سقطوا في النكبة، وهذا الدمار الشامل الذي أصاب غزة، ونتائج الحرب وتداعيتها على كافة الصعد.. إذا لم تشكل كلها صدمة، فيعني أننا أُصبنا بالتبلد والشلل.
الصدمة لا تعني أبداً كيّ الوعي، ولا الخضوع، ولا الاستسلام، ولا تطويع العقل، ولا تدجين الإرادة، ولا القبول بالواقع المرير، ولا التسليم بنتائجه الكارثية.
الصدمة المطلوبة: أن تستيقظ الخلايا النائمة في دماغك، أن تصل إلى أعماق روحك، وتسبر آخر نقطة في عقلك الباطن، أن تهز وجدانك، ويصحو ضميرك، وأن تنحاز لإنسانيتك، وأن تفكر بجدية وعمق وشمولية. أن تعيد النظر في كل رهاناتك وحساباتك وأحكامك المسبقة، وأن تقرأ بوعي مختلف وجديد كل ما سُطّر في دماغك من قبل، وأن تعيد برمجته من جديد. هذا يجب أن يحصل على المستوى الفردي والجمعي.
أن ننزع القداسة عن شعاراتنا السابقة، بل أن نتحرر كلياً من لغة الشعارات والجمل الجاهزة والتفكير العاطفي والرغائبي، وأن نتخلص من سطوة الخطاب وسحر البيان وبلاغة اللغة، وألا ننتظر أي مهدي مخلّص، ولا أي قائد مظفر سيحضر لنا النصر على طبق جاهز، وألا نبحث عمّن يريحنا ويعفينا من التفكير بالإحالات الغيبية والغامضة، ومن يداعب عواطفنا ويهيجنا لحظياً، ويعمينا عن رؤية الجوانب الأخرى من الصورة، أن نتخلص من تلك الثنائيات الحادة والمتقابلة، فالعالم مليء بالخيارات المدهشة والناجعة.
الصدمة الإيجابية تعني أن نجري مراجعة شاملة، وتقييماً أميناً وشجاعاً لكل المراحل السابقة، بقراءة نقدية موضوعية، وأن نعترف بأخطائنا، وأن نعيد النظر بالأدوات والأساليب التي حكمتنا طيلة القرن المنصرم. أن نفكر ولو لمرة واحدة بعقلية جماعية مسؤولة، دون تناحر ولا تنابذ ولا مزايدات، ولا شعارات. نفكر بعقولنا، لا بعواطفنا.
ما لم نفعل ذلك، وبالشكل الصحيح، ترقبوا المزيد من الكوارث والسقوط.