من المفترض أن تكون فرنسا قد تقدمت إلى إسرائيل بالأمس، بمبادرتها حول مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي يعقد في العاصمة الفرنسية باريس، ومن المتوقع أن لا تردّ الدولة العبرية مباشرة برفض هذه المبادرة، بذريعة دراستها وتسجيل ملاحظاتها عليها، ومن المفترض، أيضاً، أن باريس تدرك حقيقة الموقف الإسرائيلي من مبادرتها، وان إرجاء الرد المباشر بالرفض، إنما هو أحد أشكال المراوغة التي اتبعتها حكومات إسرائيل إزاء كافة المبادرات بهذا الشأن، فرنسا كما غيرها من الوسطاء، بما في ذلك الحليف الأقوى لإسرائيل، الولايات المتحدة، ان الدولة العبرية اتخذت موقفاً واحداً وقاطعاً حول التعاطي مع هذا الملف، بعنوان: مفاوضات إسرائيلية ـ فلسطينية مباشرة، دون شروط مسبقة، في وقت تستثمر الدولة العبرية هذا الوقت المستقطع من المبادرات المتتالية، في إرساء دعائم وقائع من الصعب التراجع عنها، من خلال سياسة التهويد والاستيطان.
والمشكلة بهذا الصدد، أن الجميع يدرك ذلك، بعد سلسلة من التجارب والاختبارات التي شكلت سياسة ثابتة للدولة العبرية إزاء هذا الملف الشائك! في مواجهة هذه السياسة، تتمسك عناصر السياسة الدولية، أميركا والاتحاد الأوروبي تحديداً، بحل الدولتين، فلسطين على أراضي عام 1967، وإسرائيل، وتختلف هذه السياسات نوعاً ما إزاء مدينة القدس، بين التقسيم وبين إخضاعها لسيطرة دولية، والمقصود هنا القدس الشرقية المحتلة، في الآونة الأخيرة، تبين أن هذا الحل ليس في وارد حكومة نتنياهو، ولا أحزاب المعارضة الرئيسة، تحت مبررات عديدة من بينها، أن ليس هناك شريك فلسطيني، الذي ما زال يشجع العنف واستمرار الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أما المعارضة، فترى أن الوضع الإقليمي لا يسمح بتناول ملف حل الدولتين في هذا الوقت، والبديل إما إبقاء الأمر على حاله، مع استمرار الاستيطان، أو حل من جانب واحد، تحت عنوان خطة الفصل من جانب إسرائيل، تحدد ما تريد، وتترك شيئاً للفلسطينيين، وتصبح الدولة العبرية، حسب هذه الخطة ليست دولة محتلة، بل أن الأمر لا يعدو أزمة علاقات، هذا الحل مؤقت، كما ترى المعارضة، وهو حل دائم، كما أثبتت التجارب السابقة، فالمؤقت بينما هو دائم بالنسبة للدولة العبرية، واتفاق أوسلو خير دليل على ثبات المؤقت كدائم.
وفي زحمة هذه الآراء والمواقف المتزاحمة، تغيب مبادرة السلام العربية تماماً، تلك المبادرة التي لحظت اعترافاً عربياً بعد حل يقوم أساساً على قرار 242، وانسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية، غير أنه مع غياب هذه المبادرة، نلحظ أشكالاً متعددة من الاتصالات العربية مع الدولة العبرية، بشكل يوفر لإسرائيل أشكالاً من الاعترافات من دون أن تقدم على الاعتراف بالمبادرة العربية، وهي تتلقى هذه الأشكال من الاعتراف، بدون أي «تنازل» من قبلها، ما يوفر لها الاستمرار في هذه السياسة التي لا تكلفها شيئاً.
حاول المجتمع الدولي، خاصة الاتحاد الأوروبي، موحداً، أو دولاً متفرقة، اتخاذ خطوات تشير إلى اصراره على حل الدولتين، وان بقاء الأمر على حاله، خاصة بعد فشل الحراك الأميركي على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، امر لم يعد مقبولاً، على هذا الصعيد لاحظنا اعترافات بعض الدول بالدولة الفلسطينية، كما لاحظنا حراكاً برلمانياً واسعاً، خاصة لدى دول الاتحاد الأوروبي لحث الحكومات على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بالتوازي مع خطوات بنّاءة لوسم منتجات المستوطنات، دون تجاهل حركة المقاطعة على نطاق واسع للمنتجات الإسرائيلية في وقت بدأت عدة جامعات في أوروبا وأميركا، تقاطع الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية إلاّ أن الدولة العبرية، وبدلاً من الاستجابة لمعطيات هذا الحصار السياسي والاقتصادي، رغم أنه ما زال في البداية، إلاّ أنها تحركت مستفيدة من غياب دور عربي حاسم وحازم والانشغال بملفات الارهاب واللاجئين، واتخذت خطوات دبلوماسية سريعة، للتخفيف من هذا الحصار، وقد أتى هذا الحراك أكله عندما أعلنت الحكومة البريطانية أنها بصدد اتخاذ خطوات لمواجهة أي محاولة لمقاطعة إسرائيل، من خلال وقف الدعم الحكومي لأي مؤسسة أو جهة، تقوم بهذه المقاطعة، وهناك خشية من أن يمتد التأثير الإسرائيلي على بعض الحكومات، لاتخاذ مواقف مشابهة لتلك التي اتخذتها حكومة المحافظين في بريطانيا، خاصة إذا لم يتحرك الرأي العام البريطاني على أساس أن لندن، عادة ما تعدل قوانينها بين وقت وآخر تحت الضغوط الإسرائيلية، خاصة تلك التي كان من شأنها ملاحقة كبار المسؤولين، مدنيين وعسكريين إسرائيليين، إثر دعاوى ضدهم، في هذه الحالة، فإن تراجع تأثير الرأي العام على الحكومات من شأنه تشجيع إسرائيل على عدم الاكتراث بالإجراءات التي كان يعتقد الرأي العام، أنها شكل من أشكال العقاب على الإجراءات الاحتلالية التي اتخذتها إسرائيل ضد المواطنين العرب باعتبارها دولة احتلال. إن هناك خشية من أن تصعيد الرأي العام ضد إسرائيل، خلال أشهر ماضية، قد أخذ يصل إلى نهاياته بفضل الحراك الإسرائيلي النافذ والمؤثر، إلاّ أن توقع الاقتراب من انتخابات برلمانية قادمة، ربما من شأنه أن يعيد لهذا التأثير قدرته على التغيير، ما يجعل الحكومات تتردد أكثر في الانصياع للنفوذ والتأثير الإسرائيلي!!