ديمقراطيات استبدادية

عبد الغني سلامة
حجم الخط

كثير من الأنظمة الديكتاتورية تسوّق نفسها للعالم على أنها أنموذج فريد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، في حين أنها في حقيقة الأمر أنظمة استبدادية تحيط نفسها بغلاف ديمقراطي زائف، تمارس من ورائه أبشع أنواع التسلط والقمع، ولا يقتصر الأمر على الممارسات بل هو أصلا في صلب هيكلية الدولة ونظامها السياسي وطبيعة التركيبة السياسية والاقتصادية التي تحكمها.

الولايات المتحدة كمثال بارز، رغم أنها تخلصت من العبودية بعد الحرب الأهلية، ومن العنصرية ضد السود أواخر الستينيات، إلا أنها ما زالت تمارس أشكالا عديدة من العنصرية والاستعباد، وليس بالضرورة أن تكون موجهة فقط ضد السود والملونين، كما أن نظامها الانتخابي تعتريه الكثير من نقاط الضعف، حيث لا يستطيع الترشح للرئاسة أو لعضوية الكونغرس أو حتى للمجالس المحلية إلا من كان ذا ثراء فاحش، أو من ترضى عنه دوائر الصهيونية والحزبان الحاكمان، بغض النظر عن مضمون برنامجه الانتخابي.

ومن جانب آخر، فصناعة القرارات المهمة لا تخضع لأي معيار ديمقراطي حقيقي، بل وفقا لاعتبارات ومصالح مراكز القوى العديدة (الأمن، القوى الاقتصادية، وغيرها). وفي عالم اليوم هنالك نظام رأسمالي متوحش يدّعي الديمقراطية وهو أبعد ما يكون عنها، وأميركا تتزعم هذا النظام وتسميه «العالم الحر»، ورغم أن الديمقراطيين هم من يحكمون أميركا حاليا إلا أن فكر «المحافظين الجدد»، تراه ماثلا في أكثر من موقع، وليس فقط في أوساط الحزب الجمهوري، وهذا الفكر العنصري المتعالي يدعو إلى مبدأ «عصبة الديمقراطيات» وقد صرح بذلك علانية «ماكين» مرشح الحزب «الجمهوري» في الانتخابات الأميركية السابقة، حيث صنف العالم إلى قسمين: ديمقراطي وغير ديمقراطي، ودعا الدول الديمقراطية الى أن تتحالف ضد الدول غير الديمقراطية، وهو يرى إسرائيل بحسب هذه النظرية مثالا للدول التي يجب دعمها وضمها لهذه العصبة.

نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا كان يمارس شكلا متقدما من الديمقراطية وتداول السلطة عبر صناديق الانتخابات، ولكن ديمقراطيته كانت حكرا على البيض، بينما السود يقبعون في كانتونات الفصل العنصري ومحرومون من أبسط حقوق الإنسان، تماما كما كانت قديما ديمقراطية روما وأثينا قائمة على نظام طبقي يسحق الفقراء ويضطهد العبيد ويجعل منهم مجرد حيوانات متصارعة، يتسلى بمقتلها الأثرياء وعلية القوم.

إسرائيل تشبه إلى حد كبير نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا؛ فلدى إسرائيل نظام ديمقراطي تدعي أنه واحة خضراء وسط صحراء قاحلة من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، ولديها قضاء قوي وصحافة تتمتع بهامش واسع من الحريات، ولكنها في حقيقة الأمر عبارة عن «إسبارطة الجديدة» ومجتمع عسكري يرى أن مبرر وجوده وبقائه في حالة حرب دائمة، كما لو أنها جيش له دولة.

وهي أساسا دولة قامت بالعدوان والاحتلال وإلغاء الآخر، وما زالت تنتهك القانون الدولي وتمارس إرهاب الدولة المنظم وأبشع جرائم الحرب والجرائم المصنفة ضد الإنسانية .. وهي بآلتها الإعلامية تريد من العالم أن يصدقها عندما تقول بأن جيشها لم يستخدم الفسفور الأبيض في عدوانه على غزة، وأن يصدق بأن الجيش الإسرائيلي من أكثر الجيوش في العالم تمسكا بالأخلاق حينما يمنح أسرة في غزة خمس دقائق لإخلاء البيت قبل أن يهدمه فوق رؤوسهم !

إيران التي يحكمها نظام الملالي ونظرية الولي الفقيه، ما هي إلا شكل من الثيوقراطية الأوليغاركية، أي الثيوقراطية التي تحكمها مجموعة من رجال الدين تدعي أنها تستمد شرعيتها من لدن السماء، وعلى مدار التاريخ كانت الأنظمة الثيوقراطية تتحول في كل مرة إلى دكتاتورية، مع ادعائها الحصانة والحق الإلهي، وذلك لتبرير التفرد بالسلطة والقرار.

وحتى تُديم تسلطها على رقاب الناس فإنها تلجأ عادة إلى تبني خطاب سياسي يقوم على شعارات دينية طوباوية دوغمائية، مع المبالغة في تصوير حجم خطر العدو الخارجي، بهدف تحييد الجبهة الداخلية وفرض موالاة الشعب، إضافة إلى استخدام المال والعسكر والإعلام.

ويتساوى في هذا حكم الثيوقراطية الإيرانية كل الأنظمة الشمولية حتى لو ادعت العلمانية والاشتراكية والشيوعية في أي بلد من بلدان العالم. وسلطة «حماس» في غزة هي أيضا مثلت شكلاً آخر من الثيوقراطية الأوليغاركية؛ فهي تدعي أنها حكومة ربانية اختارها الله لإنقاذ القضية الفلسطينية من أيدي الفاسدين، وبعد أن صعدت لسدة الحكم بقوة الديمقراطية وظلت تتغنى لسنة كاملة بأنها جاءت بالانتخابات وأنها خيار الشعب، ها هي الآن تتنكر لأبسط قواعد الديمقراطية وتمنع إجراء الانتخابات، فضلا عن عجزها من مواجهة الأسئلة المصيرية التي باتت تحاصرها وتفرض استحقاقها، فصارت تتهرب من الإجابة بمزيد من الجمل الثورية والشعارات الدينية العاطفية، وعلى الأرض تمارس مزيداً من القمع والضرائب، ومصادرة الحريات، وفرض رؤيتها الأيديولوجية وبرنامجا الحزبي على عامة الناس.

الأمثلة أكثر من أن تتناولها مقالة واحدة، فأغلب الدول التي تحشر كلمة «الديمقراطية» في اسمها هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية، أما بقية الدول العربية فلا حاجة لذكر أمثلة عن القمع والاستبداد والقهر المسلط على العباد، ليس لأنها كثيرة، بل لأن هذه الأنظمة أساسا لا تدعي أنها ديمقراطية، ولا تجري فيها أية انتخابات، ولا يتم فيها تداول السلطة إلا بالوراثة أو بالانقلابات، فهي خارج نطاق العنوان الذي نتحدث عنه.

وهذا بطبيعة الحال لا يعيب الديمقراطية نفسها؛ بل يعيب فهمها وممارستها؛ فالديمقراطية ليست شكلا واحدا ولا هي قالب جامد، ولا يكفي تبني كل مظاهرها الخارجية وممارسة قواعدها المعروفة، رغم أن هذا مطلوب وأساسي، ولكن جوهر الديمقراطية لا بد أن يقوم على أسس معينة، أهمها صيانة حقوق الإنسان واحترامه وضمان حقه في اختيار طبيعة النظام الذي يحكمه، وأن يتم تداول السلطة بطريقة سلمية عبر صناديق الانتخابات بشكل دوري منتظم، وهي بهذا المعنى تكون شكل الحكم الوحيد القادر على منع الظلم والاستبداد، الذي بوسعه مساءلة السلطة الحاكمة إذا أخطأت، بل وتغييرها إذا تمادت في غيها.