الكاتب: نداء يونس
والقليل من الحب يكفي كي أهذي بما أراه، وبما لا أراه، لا أحمل زانة الى آخر الرؤيا وأحملني على فكرتها البسيطة، أنا أحلم، والحلم يكفي كي أمر في عمري كالنهر، أحفر مجراي، وأكتفي بالنرجس على الضفاف، ويعجبني اتساع المرايا للعاشقين.
القليل من الحب مثل زيت السراج، كلما قلَّ أولمتُه حضورك او شيئا من الحنين، وكلما قل زاد، لأنْ لا نور يطفيء عتمتنا السائلة سواه، هو الموسيقى.
والقليل من الحب يكفي لكل شيء: يكفي لأمسح الضباب عن المرآة، وأراني في الزجاح كما أنا: عنقاء ووردة وحفنة شعر، والقليل منه يكفي كي أرى العالم شجرة زرقاء، والآخرين نجوما لمساءات السهارى، وكلاما ذائعا للأغنيات. والقليل من الحب يكفي كي تحضرني البلاغة، ويحضرني الشعر، وتحضرني الكلمة الناقصة، وتمتليء أزقة البلد بالمفردات، ويصبح كل ما أحب ومن أحب قصيدة. والقليل من الحب يكفي كي أمرَّ على صبارة في الحي تفتفت بالشوك الكثير، ثم أسمع خجل جدات التجأن إليها هربا من يد الفتى، وقلبه المدلى في شوارع الحي، المدله على باب الأهل، ينتظر الضفيرة الحمراء: تمر ويغويها. والقليل من الحب يكفي كي أرى غيمة خفيفة، وأمد يدي إلى ظلها، وأقول: هذا الحضور الجميل مطر.
والقليل من الحب يكفي كي أمر على بيت في أقصى الوطن، بيت عمره ألفا عام، وأقول: هذا أنا، أراني فيه، وفي جدي، وجد جدي لأبي، وجد جدي لأبي، وصولا الى أول السلالة، حيث تخرج نطفة من صلب صبي، وتنشئ قبيلة منا، هنا، وإلى الأبد. والقليل من الحب يكفي كي أشم رائحة التراب في يافا، وأزرع وردة على رصيف في المخيم، وأقول للعطر: هاك الفضاء، وها نحن قد عدنا او سنعود وها نحن هنا. والقليل من الحب يكفي كي أرى بسمة الأم في جنازة روحها الصغير، وأقنع قلبي أن قبيلة من الأمازونيات يأخذن استراحة محارب هناك، في قلبها، وأن بداية لنهاية فاجعة رسمها الجند على مدخل البلد، قد تفتحت، ونفضت عنها دمها، وستلد ألفا مثله ومنه وغيره. والقليل من الحب يكفي كي أذهب إلى بلاد خضراء، واجف غصنا غصنا، لأن وطنا ينفخ في صورتي أضحى بعيدا، وأنا اللاجئة، أمر بطور الحنين المر، وبأطوار الشوق الحارقة، أمد ورقة اخيرة الى الوطن ليكتب عليها ما يريد، فأحيا. والقليل من الحب يكفي كي يصير جسد السجين خارطة للأمنيات: ها أنا طريقي، وها جسدي يمر عبري وأمر فيه، نلتقي حول فكرتنا السامية، أحب ما أرى، أحب اعتياد الآخرين خارجي على فكرة الحياة، وأشتهيها، وأحب فكرتي عن استدارة العالم التي تكتمل كل صباح، فلا صبح يشبه آخره، القليل من الحب يحمل الحلم بحركة لولبية، وكل امتداد للحلم، اتساع لسواه، وكل حب يطوع فكرة الانتظار. القليل من الحب يكفي كي أواجه دعوة يومية للكره، وفكرا تالفا، قليل منه يكفي كي أسمع صوت النداء إلى صلاة من جرس صدىء أو مئذنة مهجورة عالية، وأن أكون إمامة للنساك والمتصوفين والغارقين في لحظة الإستدارة، لا شيء مثل وحي يحل في طرف إستدارة، أنا الله، يقول الصوت، وأنا صورة الله، أقول، وأقع.
والقليل من الحب يكفي كي أزيح العمارات الجديدة، وأزرع الارض بشجر البرتقال والليمون والخشاش، وأسوِّر بيارة بظل الشمس عند الغروب وأزرع كف السهل بالزيتون، وأذكر أمي كشجرة عالية، عالية. والقليل من الحب يكفي كي أحمل عصاي إلى تلال الله، وأهش على غنمتين ترعيان سفوح القمر، وأطرد الذئب من الخيال الرعوي، وأقطف النرجس من قلب الصخر، يسألني أحدهم ماذا أحمل: أقول غيماً معطراً. والقليل من الحب يكفي كي تعرف الفرشاة طريقها في جسد اللوحة، وتفرط رمان الوجع على صورة عاليةٍ لجسد تعرى، وانغمس في اللون، وصار يترك شيأَه عنه، يتقلب على الورق، ويُغرق شاشه الأبيض بما تيسر له من لون، ومن ذكرى، هكذا يبرأ الجرح، وأَكْلَم أنا. والقليل من الحب يكفي كي يكون لي ألفة النساك في الطريق الموحش، أستظل بالمفرد على الجمع، وأسير تسبقني الخطى إلى شط بعيد، أنا الشط، والبحر وأنا السفين. والقليل من الحب يكفي كي يمر المرود في عيني كعصا الساحر، فينزل ستار الليل، وأرى الفتى الرعوي واقفا في العتمة، تكاد أصابعه تضيء، وقلبه رمانة ناضجة خلف جسده الشفوف، وأتمتم في سر الكون: ها عيني رأته، زارني حبيبي الشهيد.