على الرغم من مرور نحو 140 يوماً من الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، ووسط الحاجة الملحة لوضع حد للمعاناة الإنسانية المستمرة في غزة، فإنَّ كثيراً من الأوساط الإعلامية والدبلوماسية تسلط الأضواء في اتجاه معاكس للبّ المشكلة.
فهناك 3 موضوعات مترابطة تهيمن على خطاب السياسيين ووسائل الإعلام الأميركية والأوروبية...
ماذا سيحصل في اليوم التالي لانتهاء الهجوم؟ والحاجة إلى إصلاح السلطة الفلسطينية، والدعوات إلى حلّ الدولتين.
وبالرغم أنَّ كثيراً مما يخبئه المستقبل يعتمد إلى حدٍ بعيد على نتيجة المواجهات المسلحة الساخنة التي لم تنتهِ بعد، والتي يبدو أنَّها لن تنتهي في وقت قريب، فإنَّ بعض الإجابات تبدو واضحة الآن.
«اليوم التالي» ليس قريباً للأسف، ويبدو لي أنَّ البحث فيه الآن هو مضيعة للوقت، ويأتي على حساب الأولويات الإنسانية الملحة الحالية. هناك معطيات كافية تمكن من استشراف الملامح الأساسية لليوم التالي، أهمها أنَّ إسرائيل ستجد نفسها تتورط تدريجياً في وحل غزة، بما فيه تحمل المسؤوليات المختلفة هناك.
ومن أسباب ذلك أنَّ إسرائيل بدأت الآن تبرير استمرار وجودها العسكري في غزة بحجة الحفاظ على «إنجازات» عسكرية تحققها في هذه الحرب، سواء إبعاد أهل شمال غزة عن بيوتهم وأراضيهم، أو «نزع» فتيل المقاومة، أو أي شيء تعتقد أنها حققته على الأرض.
وبهذا، ستجد إسرائيل نفسها تعيد احتلال قطاع غزة تدريجياً بشكل أو بآخر.
وطالما احتفظت إسرائيل بوجود عسكري في غزة، فلن تكون أي جهة أخرى على استعداد للقيام بدور مساعد هناك، وخاصة المسؤوليات المدنية.
إسرائيل و«حماس»، اللاعبان الرئيسيان في غزة، لا يرغبان أن تتولى السلطة الفلسطينية المسؤولية في غزة، وليس من المتوقع أن تقبل السلطة الفلسطينية مسؤولية مدنية في غزة إلى جانب الدبابات الإسرائيلية، خاصة أن تجربتها في الضفة الغربية مع هذا النموذج لا تسير على ما يرام.
كما أنَّ دولاً عربية أخرى أعلنت بالفعل أنها ليست مهتمة على الإطلاق بمثل هذا الدور أيضاً.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فكان واضحاً للغاية في هذا الشأن.
ويكرر موقفه باستمرار؛ إسرائيل ستحتفظ لنفسها بالمسؤوليات الأمنية غرب نهر الأردن، بما في ذلك قطاع غزة.
ويعتقد الفلسطينيون أنَّ هذه الرؤية اليمينية المتطرفة سوف تكون لها الغلبة، على الرغم من أصوات أوروبية وأميركية معارضة لهذا التوجه، فما دام «أصدقاء» إسرائيل وجماعات الضغط في العواصم الغربية وغيرها يساندونها، فإن إسرائيل سوف تفعل ما تريد على الأرض.
الرئيس الأميركي جو بايدن كان أول من اقترح أن يكون للسلطة الفلسطينية دور في غزة بمجرد إعلان انتهاء الغزو الإسرائيلي. لكنه ربط هذا الدور بإصلاح السلطة الفلسطينية، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً. فمن وجهة نظر الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن هذه المداولات حول «إصلاح» السلطة لا يستند إلى واقع متين. لأن الفلسطينيين عموماً، والسلطة الفلسطينية خصوصاً، لا يملكون ترف إصلاح هذه السلطة (الفلسطينية) في حين أن إسرائيل في المراحل الأخيرة من خنقها سياسياً واقتصادياً.
العقوبات الاقتصادية الإسرائيلية أوضحها كيف أنَّ احتجاز معظم الضرائب التي تجبيها تل أبيب نيابة عن السلطة الفلسطينية يشلّ المؤسسات الفلسطينية. فالسلطة الفلسطينية، التي تدير الشرطة والمشافي والمدارس وكثيراً من الوظائف الأخرى في الضفة الغربية، وما زال لديها موظفون في غزة، لم تتمكن من دفع كامل رواتب موظفيها منذ عام ونصف عام.
سياسياً، تتدهور مكانة السلطة الفلسطينية باستمرار في عيون مواطنيها، فمع الزيادة الكبيرة في مصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وانسداد أي آفاق سياسية نتيجة رفض إسرائيل لحلّ الدولتين، تبدو السلطة الفلسطينية في نظر شعبها عاجزة. وهذا لا يعني أبداً أن السلطة الفلسطينية ليست بحاجة إلى إصلاحات.
في واقع الأمر، هي تحتاج إلى ما هو أكثر من الإصلاحات. فالسلطة تحتاج إلى الأكسجين للبقاء على قيد الحياة من أجل إتاحة الفرص للإصلاح.
إنَّ الطريق إلى إصلاح السلطة الفلسطينية يبدأ بتمكينها، والسماح لها باستعادة المساحة السياسية والاقتصادية والجغرافية الممنوحة لها من خلال الاتفاقيات التي نشأت هذه السلطة على أساسها.
فالمطلوب إتاحة الفرصة لإجراء انتخابات سليمة وحرة، لأن الانتخابات هي العمود الفقري للإصلاحات الحقيقية. وبعبارة أخرى، لن يكون لإصلاح السلطة الفلسطينية معنى إلا إذا تم كجزء من رزمة شاملة للتمكين.
وهذا يقودنا إلى حل الدولتين. ومن عجيب المفارقات أن الساسة الأميركيين والأوروبيين «اكتشفوا» فجأة أنَّ علاج الأزمة الحالية يتلخص في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل.
الفلسطينيون والعرب قالوا ذلك مراراً وتكراراً، فهو العلاج الواقعي الوحيد.
ولكن من دون مجابهة المعيقات الإسرائيلية التي حالت وتحول دون إنشاء دولة فلسطينية منذ بداية عملية السلام قبل 30 عاماً، فإن هذا الشعار يظل من دون مصداقية ولا يخدم سوى الاستهلاك الإعلامي.
فلا توجد مصداقية في المطالبة بحلّ الدولتين ما دام التسامح الذي نشهده مع التوسع الاستيطاني مستمراً. فاتخاذ موقف دولي جديّ بشأن التوسع الاستيطاني يتطلب فرض عقوبات على إسرائيل.
وفي الواقع، لا يوجد سوى طريق سلمية واحدة لتحقيق حل الدولتين. وهو العمل على إنشاء دولة جديدة، أي دولة فلسطين، بنفس الطريقة التي تأسست بها الدولة الأولى، دولة إسرائيل، أي من خلال الاعتراف بدولة فلسطين ودعمها.
بينما التشدق الكلامي بحل الدولتين لن يكون له أي أثر عملي. وبدلاً من هذا الخطاب، غير المجدي، يجب على الدول الاعتراف بدولة فلسطين على حدود عام 1967 والمساعدة في تحقيق أمنها واستقلالها بطريقة عملية.
إن الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه إسرائيل تفسدها، بسبب غضّ الطرف عن سلوكها، فقد ساهم ذلك في غُلو التطرف، ما أدى الى مزيد من ابتعاد إسرائيل عن حل الدولتين.
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يربطا دعمهما المستمر لإسرائيل باحترامها لحل الدولتين، ما شكل قناعة لدى إسرائيل أنه لا يوجد ثمن لسياستها تعميق احتلالها العسكري وترسيخه. ولا يرى الجمهور الإسرائيلي أي ثمن لسياسات قادته ومواقفهم، حتى لو كانت تتعارض مع رؤية «إخوة إسرائيل الكبار» (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) الذين يزودونها بالسلاح، ويحولون دون عزلتها السياسية. فإحياء حل الدولتين يتطلب ممارسة ضغوط حقيقية على الجانب الإسرائيلي لعكس الاتجاه المتصاعد نحو مزيد من التطرف الإسرائيلي.
فرض عقوبات على حفنة من المستوطنين الإسرائيليين، كما فعلت الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي مؤخراً، يبعث برسالة مفادها أنهم يعترضون على «عنف فردي»، وليس على السياسة الإسرائيلية الرسمية برمتها. إن ما تتطلبه هذه الأزمة الملحة هو إعادة نظر جذرية في سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي تغض الطرف عن عنف الدولة الإسرائيلية. وإلى أن يحدث ذلك، الفلسطينيون مستمرون في البحث عن طرق أخرى للحصول على حريتهم.