عـن صـفـقـة الـهـدنـة ..!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

لا أحد يأبه بموت غزة، هكذا قالت تجربة أكثر من مائة وأربعين يوما من الإبادة وردود الفعل العربية والإسلامية والدولية التي تواصل صمتها، من يهتم بمقتل سكانها حتى لو كانوا من الأطفال والنساء؟ من يهتم بأنين جوعها الذي يفطر القلب؟ لا أحد ...! هذا ما لم يفهمه أبناء غزة سريعو الاندفاع بلا حسابات حين يصنعون قرارهم، هذا هو الواقع في منطقة كأنها نتوء زائد في خاصرة الكرة الأرضية ولا مشكلة في إزالته بعملية جراحية مهما كلفت من الدم.
تحولت الحرب الوحشية إلى واحدة من عاديات الأشياء، تراجعت التظاهرات في العواصم العربية كأن الشحنة العاطفية الثقيلة تم تفريغها في الأسابيع الأولى، هكذا يمارس العرب السياسة، شعوباً وحكومات، على نمط الفزعة أو الهبة وانتهى... لكن الدم والجوع يستمران معلقين ما يكفي من المشانق والصواعق في ساحات غزة التي شاء قدرها أن تمتلئ باللاجئين الباحثين عن كسرة حياة ليجدوا الموت في كل مرة، لكن هذه المرة بالجملة وأكثر بشاعة تكلله بشاعة الصمت.
كالملهوف، وهم يتلهفون حقا على خبر يأتيهم من بعيد عن تهدئة توقف هذا الموت الجماعي الذي لم تستطع أن توقفه العواصم المدججة بالإمكانيات وبلاغة اللغة، يسافر الغزيون المنكوبون مع الوفود محاولين استيلاد أمل من رحلة أو تصريح ما، يرتفع ويهبط منسوب الأمل لديهم على كلمة من هنا ومن هناك فلا شيء يخيف الناس أكثر من الموت سوى الموت جوعا وكل خياراته متوفرة.
التساؤلات كثيرة عن الهدنة في محاولتها الثانية بعد أن أفشل الإسرائيلي المحاولة الأولى وهو يملك تجربة هائلة من المناورة التفاوضية ولكنه يملك أكثر آلته العسكرية القادرة على الضغط على حركة حماس، حيث ازدياد قتل المدنيين والترويع والتجويع والحصار خصوصا بعد أن تراجع عدد القتلى في صفوفه وتوقفت الصواريخ التي أحدثت زعزعة في المدن الإسرائيلية وبات في الميدان مهدداً باجتياح رفح بمعنى أقل ضغطاً لولا أهالي المحتجزين الذين يضغطونه لإعادة أبنائهم.
في المرة السابقة، أرسل نتنياهو وفده لباريس لإفشال الصفقة وليس لإتمامها، فهي بكل الظروف في غير صالحه. وفي الأسبوع الماضي، كان بتسلئيل سموتريتش العمود القوي في حكومة نتنياهو وأكثر وزرائها صراحة يعترف حين قال، «المختطفون ليسوا رأس اهتمامنا». وهذا بيت قصيد حكومة تظن أن تقديم تنازلات في غير صالحها ولم ترسل وفدا للقاهرة في الأسبوع الذي نشطت فيه العاصمة المصرية لتجديد المفاوضات بعد أن وصل وفد حركة حماس لكن إسرائيل امتنعت لتتدخل الولايات المتحدة من خلال قمة ثانية في باريس بعد أن اعتبرت تل أبيب أن الأمر انتهى بالفشل في محاولة لإغلاق الصفحة.
هذه المرة، ذهب وفد إسرائيل لا ليعقد صفقة بل إكراما للولايات المتحدة التي تضغط بشدة لأي هدنة توقف الحرب في رمضان، بعد تقارير تعتقد أن الأجواء في الشهر الفضيل ستتسبب في مزيد من الاشتعال في المنطقة «يبدو أنه يعطي بعض الأمل في العرب والمسلمين» وخصوصا في الضفة الغربية الهادئة نوعا ما والتي تبذل واشنطن قصارى جهدها للإبقاء على هذا الهدوء فيها فقبل الحرب كان قد عقد اجتماعا العقبة وشرم الشيخ من أجل ذلك، وأيضا خوفا من توسع الحرب أو كما تسميه الخشية من عمليات منفردة تضر المصالح الأميركية.
المرونة التي قدمتها حركة حماس كما تقول أطراف الوساطة أعادت إحياء الأمل، لكن الإسرائيلي الذي يحترف المناورة وتخفيض سقوف الآخرين الذين عادة يكونون تحت الضغط فما بالنا عندما يتم جره لصفقة هو بالأصل معارض لها؟ أو صفقة تقطع الطريق على مشروعه التهجيري، وهو لا يمارس التجويع في غزة إلا بهدف استمرار تفريغ الشمال الذي بدأه بداية الحرب بينما الصفقة تقتضي عودة النازحين للشمال وهو الشرط الذي تتمسك به حركة حماس بشدة.
لذا أرسل نتنياهو وفده الذي يحمل لاءاته الأربع التي تنسف الصفقة: لا وقف للعدوان على غزة، ولا انسحاب من القطاع، ولا عودة لنازحي الشمال، ولا صفقة حقيقية للأسرى. هكذا يقول الوسطاء الذين لا يفرطون في التفاؤل والعارفون بطبيعة الحكومة ونواياها وهو ما أكدته قناة  «كان» العبرية بأن إسرائيل عارضت ولم تكتف بالمرونة التي قدمتها حركة حماس، لكن الولايات المتحدة لم تفقد الأمل.
الإسرائيلي يشيع جوا من التفاؤل في ذروة المناورة ويمارس نفس المدرسة «نعم ولكن» وفي «اللكن» يضع كل الألغام التفجيرية منتظرا استسلاما لكل شروطه يظهره كأنه المنتصر خصوصا أن نتنياهو وحلفاءه لا يتحدثون سوى بلغة النصر ومصطلحاته. وهنا بدت المسألة عالقة من جديد بين حكومة تريد فقط أن تنتصر مهما كلف الدم ووسط موافقة وعدم اعتراض عربي وإسلامي ودولي، وبين شعب يطحن تحت هذا الصمت والصواريخ والجوع.
حتى نتوقع نسبة نجاح الصفقة التي أصبحت في المنتصف بين المصلحة الأميركية بالدفع وبين المصلحة الحكومية الإسرائيلية بالكبح، يكون السؤال من يمكنه أن يضغط الآخر أو من يمكنه أن يفرض الأمر الواقع.. الرغبة الأميركية أم الدهاء الإسرائيلي؟ الفرص متساوية ورغم أن التجربة أظهرت عجز الأميركي عن ثني الإسرائيلي في هذه الحرب لكن هذه المرة لها مصلحة مباشرة فهل تضع ممكنات قوتها لتحقيقها؟ حينها يمكن التفاؤل خاصة أنها تضع رمضان شهرا بلا حرب ولن تقبل غير ذلك.