مجرد مثال، وللتذكير فقط

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

في الثاني من آب 1990 استيقظ العالم على خبر صاعق: "اجتياح الجيش العراقي للكويت"، وكما نعرف استغرق احتلال الكويت بضع ساعات، وإثرها تفجرت أزمة عالمية عُرفت حينها بأزمة الخليج، وبسرعة مدهشة انعقد مجلس الأمن وأصدر قراراً بإدانة الغزو، ثم بدأت أميركا بتجييش الأساطيل بعد أن شكلت تحالفاً دولياً ضم 30 دولة من بينها تسع دول عربية.
استغرقت الأزمة أقل من ستة أشهر، وانتهت بحرب مدمرة تلقى فيها الجيش العراقي هزيمة منكرة، وأدت فيما بعد إلى موجة احتجاجات شعبية عارمة شملت عموم العراق، وجوبهت برد قاسٍ من قبل النظام.
بعد هزيمة العراق فرض التحالف الدولي حصاراً خانقاً عليه دام حتى العام 2003، حيث شنت أميركا عدوانها الثاني، والذي انتهى بسقوط النظام، ودخول العراق نفقاً مظلماً تخللته حرب أهلية وموجات عنيفة من الاقتتال الداخلي والتفجيرات الإرهابية وعمليات النزوح الداخلي والهندسة الطائفية ولجوء ملايين العراقيين إلى شتى أنحاء المعمورة.
ومنذ انهيار السد العراقي فاضت على المنطقة سلسلة من الهزائم والتراجعات والسقوط في شتى المجالات، ما زلنا ندفع أثمانها إلى الآن.
والآن، لنرجع إلى أجواء المرحلة الأولى قبيل الهزيمة، وتحديداً إلى الأشهر الأخيرة من العام 1990، لنتذكر كيف كان الناس يفكرون، وماذا كانوا يأملون، وما هي رهاناتهم وتوقعاتهم، وكيف تصرف الإعلام العربي الرسمي والشعبي.. إلخ.
سياسياً: انقسم العالم العربي إلى محورين: محور الدول التي رفضت التدخل الأميركي وأيدت العراق (منظمة التحرير، الأردن، اليمن، الجزائر) مقابل دول الخليج وسورية ومصر والمغرب التي دخلت ضمن التحالف الدولي.
شعبياً: يمكن القول إن عموم الجماهير العربية وقفت وبشدة إلى جانب العراق، وضد الغزو الأميركي.  
إعلامياً: بدأت وسائل الإعلام (المؤيدة والمناهضة للعراق) بتضخيم قدرات الجيش العراقي، وبدأت بترويج دعايات عن قدراته الخارقة، وأنه خامس جيش على مستوى العالم، وأن لديه "المدفع العملاق"، و"الكيماوي المزدوج"، وصواريخ الحسين والعباس، وأقوى سلاح جو في المنطقة، ولديه خبرة طويلة في الحروب.. إلخ..
الإعلام الشعبي بدأ الحديث عن "أم المعارك"، والحرب الفاصلة بين الحق والباطل، وجيش الإسلام في مواجهة الحملة الصليبية الجديدة، ونصر الله المؤزر، ودعم الملائكة المردفين، وحماية الكعبة من دنس الغزاة، والطير الأبابيل، وجيش العروبة في مواجهة الإمبريالية العالمية.. إضافة للدراسات التي بدأت تتحدث عن حق العراق التاريخي في الكويت، وأنها المحافظة التاسعة عشرة.. وعن فساد الأسرة الحاكمة، وتبعية "المحميات الخليجية" للغرب الاستعماري.  
وبعد أن وضع صدام حسين عبارة "الله أكبر" على العلم الوطني، صار إمام المسلمين، وقائد جيوش المجاهدين، وبدأ الناس يرون صورته على القمر، ويسمّون مواليدهم الجدد على اسمه، وانتشرت صوره في كل مكان.
على شاشات التلفزيون ظهرت مجموعة من المحللين العسكريين والخبراء الإستراتيجيين الذين يمجدون صدام، ويتحدثون عن عبقريته، ويشيدون بشجاعته، وبسالة جيشه، ويحللون بالأرقام قدرات العراق الخارقة، ويتحدثون بيقين لا يتسرب إليه الشك عن حتمية النصر، وعن نهاية العصر الأميركي، وعن مأزق أميركا وورطتها، وعن تدمير إسرائيل، وأن صواريخ الحسين ستحرق إسرائيل والمنطقة، وكان الأهالي في الضفة الغربية يخرجون لمشاهدتها والتصفيق لها.
كانت جماعة الإخوان المسلمين أكثر من استفاد من أزمة الخليج، في الأردن ودول أخرى بدأت بتسيير تظاهرات شعبية حاشدة وضخمة جداً تأييداً للعراق.. وكان الخطباء والمشايخ يعتلون المنابر في الجوامع والساحات ويقولون للجماهير كل ما يطربها، وما تحب سماعه.. يعدونهم بنصر قريب، ويحثونهم على "العودة إلى الله"، وإلى الإسلام (أي الانضمام للجماعة وتأييدها).. وسرعان ما ظهر شعار "الإسلام هو الحل"، والذي قطفت الجماعة ثماره في الانتخابات التي جرت في أكثر من دولة عربية.
الغريب أن جماعة الإخوان في الكويت والخليج عموماً استفادت أيضاً من الأزمة، رغم أنها كانت تتبنى خطاباً معاكساً لفروع الجماعة في الدول الأخرى.. وللتوضيح، سأروي لكم قصة سريعة تلخّص الحكاية:
كنت مع والدي (رحمه الله) نشاهد تسجيلاً لمهرجان خطابي حاشد نظمته جبهة الإنقاذ في الجزائر في أحد ستادات كرة القدم ليستوعب الأعداد الهائلة التي أمت المهرجان، تحدث حينها شخصان: الأول شيخ فلسطيني من الاتجاه الإسلامي، شتم أميركا والغرب الصليبي وحكام الخليج "الخون"، وأيد العراق ووصف صدام بقائد المجاهدين.. وكانت الجماهير المحتشدة بين كل جملة وأخرى تقاطعه بالتصفيق والتهليل والتكبير بحماسة بالغة.  
بعد أن أنهى خطابه، بدأ المتحدث الثاني: شيخ إخواني كويتي، بدأ بشتم صدام، ووصف العراق بالدولة الغازية والكافرة، ودعا الله لنصرة جيوش التحالف على العراق لتحرير الكويت، وشكر الدول التي انضمت للتحالف.. وأيضاً، كانت الجماهير المحتشدة بين كل جملة وأخرى تقاطعه بالتصفيق والتهليل والتكبير بحماسة بالغة.
تبادلتُ مع أبي نظرات الحيرة، واتفقنا على أن التفسير الوحيد لهذا المشهد المتناقض أن جموع الحشود لم تفهم كلمة مما قاله الخطباء، كانت الحماسة والعاطفة تدفعهم للتصفيق والتكبير كلما سمعوا كلمات تطرب لها الآذان، مهما كان محتواها ومضمونها.  
هذا كان حال الأغلبية الساحقة من جموع الجماهير على امتداد البلاد العربية؛ تغييب للعقل والحكمة، وهيمنة مخيفة للخطاب الشعبوي العاطفي المشبع بالعبارات الدينية والقومية.. وقد سادت حينها لغة الشعارات وأسلوب الخطابة والتهييج الإعلامي، حتى تحولت الجماهير إلى غوغاء.
لم يجرؤ أحد على مخالفة الجموع، وأشك بوجود أحد من هذا النوع في ذلك الوقت، كان الجميع منساقاً وبشكل مثير للدهشة خلف الخطباء والمحللين الذين كان جل همهم إرضاء المستمعين، واستدعاء الماضي، وممارسة الإسقاطات السياسية، والتكسب الحزبي.  
قبل اندلاع الحرب كان الرهان الأكبر على التظاهرات الشعبية الحاشدة التي شهدتها مختلف مدن العالم، وأنَّ صناع القرار سيمتثلون لصوت المحتجين، وسيمتنعون عن خوض الحرب.. وكانت عبارة "ازدواجية المعايير الغربية" الأكثر تداولاً.  
في اليوم الأول من الحرب كانت العيون والقلوب تترقب بلهفة سماع أي خبر عن سقوط أسراب طائرات الـ "إف 16"، وعن سقوط آلاف الجنود الأميركيين، وأسر المئات منهم.. وعن اندحار الأساطيل تجر أذيال الخيبة.. وفي المساء كانت الجماهير في قمة الغضب، وقد وجهت سخطها مباشرة نحو التلفزيون، لأن نشرات الأخبار خلت من الأخبار المتوقعة.
ومع خيبة الأمل الأولية، صار الرهان على الحرب البرية، حيث ستقع دبابات الحلفاء في مصيدة العراق.
انتهت الحرب كما تعرفون.. ورغم شدة الصدمة، لم يستوعب العقل العربي الدرس.
بعدها بسنوات قليلة، اندلعت حرب الخليج الثانية.. وكانت الجماهير تنتظر بشغف تصريحات "الصحاف" وشتمه للعلوج..