نتنياهو.. رئيس وزراء منفصل عن الواقع

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

مثل ألونسو كيخانو، الأحمق الذي أطلق على نفسه لقب «دون كيشوت»، والذي ظن وفق رواية الأسباني ميخائيل دي سرفانتيس بأنه يؤدي مهمة مقدسة، بإعادة عقارب الساعة للوراء ومعاندة التاريخ، ومحاربة طواحين الهواء، بفرض أخلاق العصور الوسطى، أخلاق الفروسية، وذلك في عصر التنوير مع بداية القرن السابع عشر، فجسد   شخصية غير عقلانية مهووسة بأدب الفروسية وأخلاقه البائدة في ذلك العصر، ومن أجل فرض أفكاره قام كيخانو باستخراج سلاح قديم خلّفه له أجداده، وارتدى درعا وخوذة وحمل سيفاً ورمحاً وامتطى جواداً هزيلاً، وانطلق في مهمته التي يعتقد بأنه سيغير بها العالم بأسره.
الى حد كبير يشبه بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، شخصية دون كيشوت في رواية دي سرفانتيس الشهيرة، وليس هذا عائداً الى صورته وهو يقف بين جنوده على تخوم قطاع غزة، يرتدي الخوذة والسترة الواقية، فقط، بل يعود الى إصراره على البقاء في عالم ما قبل الحرب الباردة، فهو ومعه جوقة من لاهوتيّي السياسة، يظنون بأن العالم بأسره متوقف عند حدود أقدامهم، ولأن رؤوسهم معبأة بأفكار غيبية، يظنون بأنهم يعيشون في عالم من الخيال، أو حتى في عالم من الورق، كل شيء يمكنه أن يجري تشكيله بناء على ما يعتقدون أو يقولون به، أو حتى وفق ما يرغبون به، وهم يظنون بأن ما قرؤوه عن تاريخ الشرق الأوسط، وفي القلب منه، فلسطين، وبغض النظر، عن كونه حقيقياً أو وهمياً، يمكن وفقه إعادة تشكيل الشرق الأوسط، هذا حين يقومون بقيادة بلدهم على طريق نفي الآخر، ووفقهم يمضي المسار الوهمي، بتجميد الواقع الإقليمي وحتى الدولي عند ما كان عليه قبل ثمانين عاماً، فهم يواصلون التسلح باستثارة التعاطف الغربي معهم باستدعاء المحرقة، وإلقاء تهمة معاداة السامية على خصومهم، بل على كل من ينتقدهم.
لقد نسي نتنياهو وجوقة الحكم المتطرفة في إسرائيل، والتي لا تقتصر فقط على كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش فقط، بأن بلدهم استندت ما بين أعوام 1948_1982، على مقولة أنها «دولة» مهددة وجودياً، وكانت تقوم باستغلال ادعاء الإعلام العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بأنه سيلقي بها الى البحر، وانها كانت تنجح في خداع الغرب، بأنها تتعرض للتهديد من جيرانها العرب، رغم أنها هي من كانت تبادر لشن الحرب، وحدث هذا في عامي 56، 67، وبها تحتل أراضيَ عربية إضافية، إضافة لما احتلته من ارض دولة فلسطين العربية والتي كانت تعادل نصف مساحة تلك الدولة المقرة في قرار التقسيم، كذلك ينسى نتنياهو وصحبه الوظيفة التي أوكلها الغرب الاستعماري لإسرائيل منذ قام بإنشائها، كقاعدة عسكرية متقدمة لضرب حركة التحرر العربية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، ضد هيمنة الغرب وسطوه على مقدرات وثروات العرب، ونسي أيضا أن حرص الغرب على بقاء ودور اسرائيل في الحرب الباردة، لم يعد كذلك بعد انتهاء تلك الحرب.
باختصار، ان نتنياهو لا يفكر لا بشكل استراتيجي، ولا يأخذ بعين الاعتبار، لا المتغيرات الإقليمية والدولية، ولا حتى وجود الآخرين، فحتى لو كانت إسرائيل متفوقة على كل دول الإقليم، وحتى لو بقيت الولايات المتحدة، حليفها الإستراتيجي زعيماً وحيداً للنظام العالمي، فإن ذلك لا يعني أبداً بأن الآخرين في الأقليم، نقصد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بلا حول ولا قوة، ولا يعني بأن الآخرين على الصعيد الكوني، غير قادرين إن لم يكن على إجبار الولايات المتحدة، على ان تكون أكثر توازناً، فبالتأثير عليها، وهكذا فإنه لا يمكن إلا لأحمق يذكرنا بأدائه السياسي هذه الأيام بدون كيشوت، أن يظل «راكباً» رأسه، بالضد من كل الدنيا، ومواصلة حرب بات هدفها واضحاً، وهو تشكيل المنطقة على هوى اليمين المتطرف الإسرائيلي.
بالطبع فإن نتنياهو يعتمد على خبرة عقود في الحكم، وعلى تجربة طويلة وموهبة خاصة جداً في الخداع والمراوغة، وهكذا فقد سار بالحرب الى شهرها الخامس، مضللاً حتى الإدارة الأميركية التي وفرت له كل ما يحتاجه من دعم واسناد سياسي واستخباري وعسكري، لينطلق بحرب غير مسبوقة في قسوتها، ورغم ان ادارة بايدن كانت تقول منذ البداية بأنه ليس بمقدورها ان تدعمه سوى باسابيع او اشهر قليلة، إلا أنه مع مرور الوقت، بات نتنياهو يفرض مواصلة الحرب حتى على الحليف الأميركي، وبالطبع ذلك يعود لأسبابه الخاصة الشخصية والسياسية، وبعد ان كان يتملص من الرد على مطالبة واشنطن بتوضيح أهداف الحرب السياسية والعسكرية، وترتيبات ما بعدها، تقدم ببطء ليجيب بما هو أشبه بالنكتة السياسية، ونقصد ما اعلنه قبل ايام، عن خطته لليوم التالي للحرب.
نتنياهو الذي صار واحداً من قادة الشرق المستبد، بعد أن أمضى طويلاً في المنصب الأول، وصار على بُعد خطوة واحدة، مع حكومة جل أعضائها يؤمنون بمعتقدات وأفكار فاشية، يبدو رئيس حكومة منفصلاً عن الواقع تماماً، فمن يتصرف على انه يعيش وحده، ولا يرى الآخرين من حوله، يكون منفصلاً عن الواقع الذي هو غير ما يظن، ومن يبقى عند حدود لحظة مرت عليها خمسة شهور كاملة، يعيش منفصلاً عن الواقع، فنتنياهو، يواصل حرب الإبادة، متجاهلاً معارضة ورفض كل العالم، بالجملة والتفاصيل، مواصلة الحرب، بتلك القسوة على الأقل، ورفض تحويل قطاع غزة، لصومال ثانية، أي غير قابلة للحياة، والعالم وراء المحكمة الدولية يرفض القتل الجماعي والعشوائي والهمجي، ونتنياهو ما زال يفعل ذلك كما فعله يوم الثامن من أكتوبر، أي متجاهلاً إخفاقاته العسكرية، وإرهاق جنوده، وإثقال كاهل اقتصاده وحتى خطر قتل محتجزيه، ومصراً على مواصلة الحرب في رفح، رغم تحذير كل العالم، ومتجاهلاً المحكمة الدولية، إن كان فيما يخص دعوى جنوب إفريقيا، أو الجواب على استفسار الجمعية العامة عن مستقبل الاحتلال بعد 57 سنة.
ونتنياهو منفصل عن الواقع المحلي أيضاً، فهو يتجاهل استطلاعات الرأي، ويغلق أذنيه وعينيه عن التظاهرات والاحتجاجات التي تطالبه بإعادة المحتجزين وفق صفقة التبادل، ومن ثم باتت تطالبه بالاستقالة، والأهم مواصلة العالم التنديد بإسرائيل، وحقيقة الأمر، بان وقف الحرب بات بتقديرنا _مصلحة لإسرائيل_ وان لم يكن في مصلحة نتنياهو وجوقة التطرف الفاشية في حكومته، لأن مواصلة الحرب، لا تعني فقط استمرار تآكل الردع الإسرائيلي، بل تداعي مكانة إسرائيل عالمياً، بما يفتح عليها باب ان يحاربها العالم بأسره، كما فعل مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قبل عقود، ويجبرها بالتالي على التراجع، ليس فقط عن مواصلة الحرب، بل يجبرها على الانسحاب والقبول بحل الدولتين، وبالطبع فإن وقف الحرب الآن، يحمل في طياته احتمال سقوط حكومة نتنياهو_ بن غفير، واعادة شيء من التوازن للداخل الإسرائيلي، بين اليمين والوسط، واعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة، اي القضاء والجيش والأجهزة الأمنية.
لكن إصرار نتنياهو على عدم وقف الحرب، ورفع شعار سحق حماس والقسام، لا يعني فقط تجاهل الآخر، بل لا يترك له فرصة للاتفاق على الحل الوسط، وجبروت القوة، كان دائما مقتل من سعى وراءها حتى النهاية، كذلك إصراره على رفض السلطة وحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية، لا يعني سوى شيء واحد، وهو الدفع بكل العالم الى ان يكون على الجانب الآخر في مواجهته، ولم يبق سوى ان تفكر واشنطن جدياً وعملياً في وضع حد له، لإنقاذ إسرائيل، وفق رؤيتها، من مآل، لن يكون مختلفاً عن مصير نظام الفصل العنصري، وعما آلت إليه كل مظاهر الاستعمار من قبل، أما نتنياهو، ومعه بن غفير، فينتظره مصير دون كيشوت، اي ان يصيبه الجنون، في وقت يقرر الطبيب  المعالج بأن لا أمل في شفائه، ليقر هو بنفسه بعد ذلك بانه كان مجنوناً ويلعن ما كان يؤمن به، ولكن بعد أن فات به الأوان.