رفح: جدار برلين القرن الحادي والعشرين

WptCE.jpg
حجم الخط

الكاتب: رجب أبو سرية


 

  حلَّ شهر رمضان المبارك دون أن يعلن الوسطاء المصريون والقطريون عن التوصل لاتفاق بين «حماس» وإسرائيل على إطار باريس 2 معدل، يقضي بوقف مؤقت لإطلاق النار، مع إطلاق سراح بعض المحتجَزين الإسرائيليين والعديد من الأسرى الفلسطينيين، وبما يعني تجنيبَ مدينة رفح الاجتياح البري الذي تهدد به إسرائيل منذ وقت، ويقف العالم كله، بما في ذلك الولايات المتحدة ضد ذلك، نظراً للاكتظاظ السكاني بعد نزوح نحو مليون مواطن من شمال قطاع ومدينة غزة إليها، منذ بدء العملية البرية الإسرائيلية قبل أكثر من أربعة شهور من الآن، فإن واقع الحال يقول، بأنه رغم أن ذلك لا يعني تلقائياً، بدء الحرب الإسرائيلية على رفح، لكنه يعني بأن حبل التوتر ما زال مشدوداً، بما يهدد بانفجار شامل وواسع، قد يشمل كل الأرض الفلسطينية المحتلة، وربما الشرق الأوسط، وحتى مناطق أخرى من العالم.
وقد اتضح منذ وقت بأن التهديدات الإسرائيلية بشن الحرب على رفح، وذلك خلال مفاوضات الوسطاء مع الطرفين المتحاربَين، كانت مع تحذيرات العالم بأسره، تبدو تكتيكية أكثر منها حقيقية، ومع ذلك فهي تحتمل التنفيذ، لأن بنيامين نتنياهو ومجلس حربه، لم يتوقفوا طوال أكثر من خمسة أشهر مضت على ارتكاب جرائم الحرب المتواصلة، بما في ذلك حرب الإبادة الجماعية، ومفرداتها تجويع السكان في شمال قطاع غزة، بما يشمل مدينة غزة نفسها، مترافقاً ذلك باستهداف تجمعات المواطنين المدنيين، وحتى وهم يحتشدون لتلقّي المساعدات الأغاثية التي تلقيها طائرات الدول العاجزة عن فرض إدخال آلاف الشاحنات المحتشدة على الطريق من العريش إلى رفح، وتدمير آبار المياه، وقطع كل ما له صلة بالحياة، وذلك رغم الدعوى القضائية المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
وما يدل على أن حبل التوتر بات الآن مشدوداً لآخره، هو أن استمرار الحرب بالقوة التي يريدها نتنياهو ومجلسه الحربي، يتطلب شن الحرب على رفح، وفي هذا التوقيت، أي بعد دخول شهر رمضان، يعني بأن احتمال انفجار الشرق الأوسط بات مضاعَفاً، أي ليس فقط ارتباطاً بما يعنيه شن الحرب على رفح، من ارتكاب مذابح يذهب ضحيتها عشرات الآلاف يومياً، بل وارتباطاً بشهر رمضان، حيث يدخل المسلمون الذين يعدون ملياراً ونصف مليار إنسان في العالم في شهر كامل من العبادة، من ضمنهم مسلمو فلسطين، الذين سيُحيون أربعَ جُمع صلاة جماعة في المسجد الأقصى، وكذلك ليلة القدر، وصلاة التراويح كل ليلة، وهذا يحدثُ في ظل تحكم الفاشي ايتمار بن غفير بشرطة الاحتلال في القدس والضفة عموماً، وحيث حاول أن يمنع عشرات آلاف المصلين، سلفاً، من الصلاة، بما فرض مناقشة خاصة في الحكومة الإسرائيلية، حيث عارضت أجهزة الأمن رغبة بن غفير بمنع الصلاة، بما يؤدي إلى اصطدام حتمي في أروقة الأقصى.
وحقيقة الأمر أن نتنياهو المخضرم في استخدام الكذب والمراوغة، وعدم الالتزام حتى بما يوقّع عليه، أو يتفق عليه مع غيره، بمن في ذلك شركاؤه الإسرائيليون، قد استخدم كل خبرته هذه المرة في مخادعة جو بايدن، حيث تعارضت مصلحة الرجلين الشخصية، بعد أن تقاطعت في شن الحرب على قطاع غزة، بعد عملية طوفان الأقصى، ومع مرور الوقت، وبعد أن تورط بايدن بالمشاركة في حرب شرسة مفتوحة، لم يكن فيها أي شيء محظوراً، بما في ذلك جرائم الحرب والقتل الجماعي، تابع نتنياهو تجاوز كل مطالب ومواقف وتحذيرات بايدن، بدءاً من تخفيض حجم القوة، والتقليل من عدد الضحايا المدنيين، مروراً بإدخال المساعدات الإنسانية، وليس انتهاءً بتسليم غزة للسلطة الفلسطينية بعد انتهاء الحرب.
ولا يُصر مجلس الحرب  ونتنياهو على مواصلة الحرب، ولا على ما تتضمنه من قتل يومي لمئات المدنيين، وحسب، بل يصر على تحقيق أهدافها الواضحة، وهي إفراغ القطاع من السكان، بتهجيرهم وقتلهم، والإصرار الإسرائيلي على المجازر اليومية، هي إفراغ جسدي، وفي نفس الوقت إجبار على التهجير، وخير دليل على ذلك، الترحيب الإسرائيلي بتدشين ميناء بحري أميركي، ستستخدمه إسرائيل لاحقاً لدفع المواطنين لركوب البواخر التي ستنقلهم إلى أركان الأرض الأربعة، بعيداً عن وطنهم، كذلك الرد العسكري الرسمي الإسرائيلي على الشرط الأميركي لشن الحرب على رفح، بإعداد خطة تضمن عدم سقوط الضحايا بكثرة هائلة، بما في ذلك تحديد مناطق آمنة، حيث رد المجلس الحربي بالطلب من سكان رفح التوجه لغرب المدينة!
ولأن مصر ترفض أن يتوجه المقيمون في رفح إلى سيناء، وترفض إسرائيل عودتهم إلى الشمال، بعد أن اعتبرت خروجهم من الشمال للجنوب، بمثابة تحقيق نصف هدفها المتمثل بالتهجير، أي إفراغ الشمال من ثُلثي سكانه، حيث يمكن للطريق الذي تقوم بتعبيده، والذي يفصل الشمال عن الجنوب، انطلاقاً من نتساريم، أن يعني ضم إسرائيل لشمال قطاع غزة، بإعادة احتلاله، وقد أعلن وزير خارجية إسرائيل، يسرائيل كاتس بوضوح قبل أيام، بأن المنطقة الآمنة التي تطلب إسرائيل من سكان رفح الذهاب إليها هي غرب المدينة، حيث قال بأن «إسرائيل أجلت أكثر من مليون مواطن من الشمال للجنوب، والآن علينا نقلهم غرباً قبل عملية رفح»، وهكذا فإن إسرائيل تريد حشر مليون وربع مواطن في «قاعة ترانزيت» هي الجزء الغربي من رفح، وهذا أمر مستحيل لإقامة هذا العدد من البشر، فضلا عن حياة دائمة لهم فيه، ولأن حماس طالبت في صفقة التبادل عودة النازحين من الجنوب للشمال، وإعادة إعمار القطاع، وانسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل السابع من أكتوبر، رفضت إسرائيل الصفقة.
أما بايدن، فقد طار صوابُه مع مواصلة نتنياهو إفشال مساعيه للحصول على أي إنجاز يعزز موقعه في مواجهة خصمه في الانتخابات الرئاسية، دونالد ترامب، وباتت تصريحات بايدن لا تُؤخذ لا من قِبل نتنياهو ولا من قِبل «حماس» ولا من قِبل أحد على محمل الجد، فهو رفع من وتيرة انتقاده لنتنياهو حين قال بأنه يضر بإسرائيل أكثر مما ينفعها، حيث رد عليه نتنياهو دونما أي انفعال قائلاً، بأن بايدن مخطئ.
ولا تؤخذ تصريحات بايدن على محمل الجد، ذلك أن أقواله لا تتوافق مع أفعاله، فهو يميز أولا بين نتنياهو وإسرائيل، كذلك هو ما زال يدعم إسرائيل عسكرياً وسياسياً، وما زال يؤيد المسار الرئيسي للحرب، بما في ذلك الحرب على رفح، ولكن فقط يرى أن تقع بعد الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، وبعد مرور شهر رمضان، حيث أن هدنة الستة أسابيع تعني أن يتم فقط تجنب الحرب في ذلك الشهر فقط، ورغم أنه قال إن الحرب على رفح خط أحمر بالنسبة لإدارته، وأنه من المستحيل أن يقتل 30 ألف فلسطيني آخر، إلا أنه ورغم أنه يمكنه في لحظة أن يوقف الحرب ويقلب الطاولة في وجه نتنياهو، إلا أنه ما زال رئيساً ضعيفاً، ونتنياهو يعرفه جيداً، لذا فإنه يواصل حربه التي تعتبر بالنسبة له الحبل الذي يربطه بالحكم، فيما بايدن يسعى فقط لضمان أصوات الديمقراطيين بمن فيهم الجناح اليساري، حيث أن عدم احتشاد الديمقراطيين وراءه، سيعني أن يخسر الانتخابات أمام ترامب.
أما نتيجة الحرب، فهي ليست مرهونة بتضاد المصالح بين بايدن ونتنياهو، ولا حتى بهامش الخلاف الضيق بينهما، بل بما تشعله في الشرق الأوسط وفي العالم، من غليان سياسي وأخلاقي، تحولت معه إسرائيل إلى دولة فاشية في نظر العالم بأسره، يدل على ذلك عدد التظاهرات التي لا تتوقف، وصارت إسرائيل دولة تقبع في قفص اتهام محكمة العدل الدولية، كدولة وقريباً كقادة ومسؤولين، تماماً كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فيما أميركا نفسها تفقد منطقياً وأخلاقياً مكانتها في قيادة النظام العالمي، وإذا ما تدحرجت الأمور، لحالة من كسر العظم، باجتياح رفح، فإن العالم كله سيشاهد تحولاً إقليمياً وعالمياً، تكون فيه رفح، كما كان حال جدار برلين، فاصلاً بين معسكرين عالميين، ومن ثم حاجزاً بين حقبتين أو نظامين عالميين.