التحالف الدولي الذي بدأ الحرب على غزّة شريكاً لـ"مجلس الحرب" والحكومة الإسرائيلية التي يشكو من تطرُّفها الشديد، هذا التحالف بدأ ينفرط عقده، وربما ينقلب بعد وقتٍ ليس طويلاً على بنيامين نتنياهو وحكومته.
نتحدّث عن شبه إجماعٍ دولي، باستثناء الولايات المتحدة حتى الآن، أصبح يتحدّث عن رفضه لانتقال الحرب إلى رفح، ويتحدّث عن انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية، والقانون الدولي الإنساني، وكثير من الدول تتحدّث عن مخالفة دولة الاحتلال لقرارات محكمة العدل الدولية.
الأغلبية السّاحقة تنادي بوقف الحرب، والسماح بتدفُّق المساعدات لمحتاجيها، وكلّ من يتواجد في قطاع غزّة يحتاج إلى كلّ شيء، حتى يبقى على قيد الحياة.
قد يقول قائل محقّاً إنّ الأنظمة "الغربية"، التي وقفت منذ بداية الحرب على غزّة مع إسرائيل، تقدّم خطاباً "مقبولاً"، لكنّها تواصل تقديم الدعم المالي والعسكري لإسرائيل، ولكن لا بأس من هذا، ذلك أنّ الحدّ الأدنى من الفائدة يحصل حتى تؤدّي مثل هذه الخطابات إلى شحن الرأي العام العالمي، وتسيء لسمعة إسرائيل.
بل إنّ بعض رؤساء تلك الحكومات بدؤوا يواجهون اتهامات، وتطالب جهات حقوقية وغير حقوقية بمحاكمتهم بتهمة المشاركة في الإبادة الجماعية التي أصبح كلّ العالم يلقي بهذه التهمة على إسرائيل، مستبقاً قرارات "العدل الدولية".
معظم الدول التي انخرطت مع إسرائيل، وصدّقت اتهاماتها لـ"الأونروا" - ما جعلها تتّخذ قرارات بوقف تمويلها - عادت عن قراراتها، وأعلنت أنّها ستستأنف تقديم الدعم إلّا الولايات المتحدة التي تقول: إنها تنتظر نتائج التحقيق الدولي الذي تجريه الأمم المتحدة.
أخيراً، ومن دون أن يترتّب على ذلك أيّ وهم، بدأت إشارات عديدة جدّية تشير إلى تصدُّع العلاقات بين إدارة جو بايدن ونتنياهو وحكومته.
تحت ضغط عدم مراعاة نتنياهو لمصالح الولايات المتحدة، ورئيسها الذي يتطلّع إلى الفوز بالانتخابات الرئاسية، فضلاً عن رؤية الولايات المتحدة لمصالحها وعلاقاتها وقواعدها العسكرية في الإقليم برمّته، يضطرّ الرئيس الأكثر ولاءً ودعماً لدولة الاحتلال لإظهار غضبه الشديد من نتنياهو.
نتنياهو رفض كلّ الوقت كلّ الاقتراحات والطلبات التي تقدّمت بها الإدارة الأميركية، والتي لا تصل إلى حدّ مخالفة إسرائيل بشأن استمرار العملية العسكرية للقضاء على حركة "حماس"، ابتداءً من موضوع المساعدات إلى موضوع الهدنة الإنسانية، إلى موضوع "ما بعد الحرب".
بالتأكيد يشعر بايدن بالضعف وربما الإهانة؛ بسبب مخالفة ورفض نتنياهو لطلبات الإدارة الأميركية التي أرادت أن تفوز بصفقة شاملة تؤدّي إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وربّما دول أخرى، ما يسمح لها بتقوية جدار الشرق الأوسط أمام تقدُّم الصين وروسيا.
الثقة بين نتنياهو وإدارة بايدن اهتزّت بقوّة، ليس فقط بسبب رفضه للرؤية الأميركية وطلباتها، بل لأنّ إسرائيل فشلت بعد حربٍ استطالت في تحقيق أيّ هدفٍ من أهدافها سوى التدمير والإبادة الجماعية التي تطيح بسمعة الولايات المتحدة ودورها في العالم، وتطيح بمنظوماتها القيمية أكثر ما فعلت أيّ حربٍ أو صراعاتٍ أخرى.
حتى الآن لم يوقّع نتنياهو على الأمر التنفيذي الذي أصدره بايدن بشأن استعمال الأسلحة والذخائر الأميركية، والقيود التي تضمّنها ذلك الأمر رغم أنّه لم يبق أمام نتنياهو سوى يومين - أي حتى منتصف آذار الجاري - وفي إشارة أكثر وضوحاً تستقبل الإدارة الأميركية عضو "مجلس الحرب" بيني غانتس المنافس القوي لنتنياهو، ومن دون موافقة الأخير الذي فهم الرسالة، فازداد عناداً.
لم يكن بايدن ثملاً حين قال: إن نتنياهو يضرّ حسب رأيه بإسرائيل أكثر من مساعدتها؛ لأنّه يجعل العالم يعارض ما تمثّله إسرائيل وأنّ ذلك خطأٌ كبير.
هذا التصريح فضلاً عن أنّه ينطوي على موقفٍ عدائي حاسم من رئيس حكومة الاحتلال، فإنّه، أيضاً، ينطوي على اعتراف صريح بأنّ سلوك إسرائيل قد جعل العالم كلّه ضدّها.
جاء ردّ نتنياهو بذات القدر من الوضوح وربّما العدائية حين أشار إلى أنّ بايدن هو المخطئ، وأنّه هو من يعرف مصلحة إسرائيل. يصدم نتنياهو دون أن يظهر أيّ إشارة إلى التراجع حين جرى نشر تقرير أجهزة المخابرات الأميركية، الذي أشار إلى جملةٍ من الاعترافات التي تؤكّد فشل الحرب التي يخوضها نتنياهو و"مجلس حربه" على "حماس" والذي استنتج أنّ نتنياهو كرئيسٍ لوزراء إسرائيل في خطر، وأنّ هناك عدم ثقة من الجمهور الإسرائيلي به، وتوقّع أن تنطلق تظاهرات كبيرة تطالب باستقالته وإجراء انتخابات مبكرة.
أعتقد أنّ هذه الإشارة حول ثقة الجمهور الإسرائيلي قد تذهب نحو إمكانية انسحاب غانتس وغادي آيزنكوت، والانضمام إلى "المعارضة" لتأجيج الشارع الإسرائيلي ضدّ نتنياهو وحكومته.
وبالمناسبة وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة انخرطت في مبادرات إقليمية ودولية لإرسال المساعدات إلى القطاع، إلّا أنّ حكومة نتنياهو لا تزال تعرقل ذلك بكلّ الطرق، ولا تزال تطلق النار على منتظري المساعدات.
وفي سلوكٍ عملي معارض للتوجهات الأميركية المتعلّقة بالحرب، من الواضح أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي بدأ يوسّع دائرة النار، واستفزاز "حزب الله" اللبناني، فلقد تجاوز القصف الإسرائيلي الشريط الحدودي، حتى وصل للمرةّ الثانية إلى بعلبك، بالإضافة إلى استهداف المدنيين اللبنانيين.
"حزب الله"، بدوره كان عند وعده، حيث إنّه يقوم بتجاوز قواعد الاشتباك، بالقدر الذي يفعله جيش الاحتلال، ولذلك فإنّه قام بإطلاق مئة صاروخ في يومٍ واحد على أهداف في الجولان والجليل الأعلى.
في تقدير أجهزة المخابرات الأميركية، أنّ "حزب الله" لا يسعى لتوسيع دائرة الحرب، ما يعني الاعتراف ضمنياً وتحذير إسرائيل من أنّها هي من يقوم بذلك، الأمر الذي يهدّد بتوسيع دائرة الحرب عمّا هي عليه اليوم.
يقول نتنياهو: إنّه متّفق منذ البداية مع الولايات المتحدة على أهداف حربه العدوانية، ولكنه يختلف معها حول طريقة تحقيقها، وإنّهما متّفقان على سحق "حماس"، وهو يكذب، فالأهداف المتّفق عليها حتى مع الدول الغربية، التي انخرطت معه في الحرب منذ البداية، كانت أوسع من ذلك، وذات أبعاد إستراتيجية خطيرة.
يريد نتنياهو أن يقلّص مساحة الفشل، ويحصرها بهدف واحد، لكنّه حتى الآن غير قادرٍ على تحقيق هذا الهدف بدليل الميدان، فيما تعتقد الأجهزة الاستخبارية الأميركية أنّ تحقيق هذا الهدف شبه مستحيل.
وتحقيق هذا الهدف شبه مستحيل في رأي الكثير من الجنرالات، وكبار مسؤولي الأجهزة الأمنية الإسرائيلية السابقين، لكنّها حرب البقاء بالنسبة لنتنياهو الذي يدمج بقاءه ببقاء الدولة.
وفق هذه المعطيات، فإنّ الهوّة ستتّسع بين حكومة نتنياهو وحلفائه، لأنّه يعمل على توسيع وإطالة الحرب.
لا نجاةَ لبايدن إلّا بوقف الحرب أو محاصرتها، ولا نجاةَ لنتنياهو إلّا باستمرارها.