الحديث لا يدور عن إقامة ميناء في غزة، بل عن إنشاء ممر بحري للمساعدات الإنسانية من أجل أن يقوم المجتمع الدولي بإيصال المساعدات الغذائية والطبية لغزة فيما تواصل إسرائيل قتل وتدمير غزة في استكمال لمهمتها التي لا تريد لها أن تنتهي. تبدو معادلة مرضية لضمير العالم النائم ولنهم وشهوة دولة الاحتلال بالمزيد من الحرب والقتل. العالم يرسل الطعام والغذاء بالتالي يمكن له أن يصف ما يقوم به بالبطولة فهو يعمل الخير وهو يحمي الناس من الموت جوعاً، وفي نفس الوقت، تقوم إسرائيل باستكمال عملياتها العسكرية دون توقف وتقتل المزيد. الكل يبدو سعيداً ضمن هذه المعادلة. المعادلة التي يرتاح وفقها العالم من وخز الضمير ويخفف من الضغط الشعبي على حكوماته: انظروا، إننا نعمل بجد ليل نهار من أجل أن نوصل المساعدات للفقراء وللمدنيين الذين يتعرضون للقصف وللقتل. لا ندخر جهداً. قمنا بإرسال المساعدات عبر شاحنات عن طريق البر ثم قمنا بإسقاطها من السماء مثل بركات ربانية، وها نحن ومن اجل المزيد من الخير نقوم بإنشاء ممر بحري سترسو قبالته السفن المحملة بالمساعدات. إننا، وهذا لسان حال الحكومات لشعوبها، نعمل كل شيء ممكن من أجل تخفيف معاناة الفلسطينيين. لسنا نائمين بل نعمل ونخلق الطرق من اجل التخفيف عنهم. الأمر ليس بيدنا ولكن ما بيدنا نعمله ونقوم به بإخلاص.
مرة أخرى، يبدو الأمر مثل المثل الإنجليزي «إذا لم يأت الجبل لمحمد يذهب محمد للجبل»، وهو فهم يعكس الرغبة في التواطؤ قبل كل شيء ينفي أي نية لمقاومة ما يحدث. العالم غير قادر على مواجهة رفض إسرائيل للتعاطي مع أي من القرارات الأممية كما أن المجتمع الدولي عاجز حتى عن اتخاذ قرار يلزم إسرائيل بوقف الحرب، لذا فإن جل ما يفعله هو أن يجد طريقة يخفف بها من وطأة الحرب ووقعها على المدنيين الذين سيموتون بكل الأحوال سواء تم إرسال مساعدات أم لم يتم إرسالها، فحالة الحرب والقتل العشوائي والحصار هي ما يودي بحياة الناس للموت.
فيما مضي، كان الحديث يدور عن ميناء يربط فلسطين بالعالم الخارجي. وكانت الفكرة أن هذا ميناء فلسطين وليس ميناء غزة ومثلما كانت السفن منذ أجدادنا الفينيقيين تحمل البضائع من فلسطين ولها عبر ميناء غزة كانت ضرورة وجود ميناء في غزة بقدر ما هو ميناء للقدس ولنابلس وللخليل. لكن كما يجري الحديث عنه الآن هو ممر بحري يسّهل مهمة الجيش في استكمال عملياته العسكرية ضد غزة وضد شعبنا. رغم أنني من الذين يؤمنون أن أي شيء في نهاية المطاف يجب تطويعه أو يمكن تطويعه من اجل الأفضل، لكن حين نكون نحن أصحاب قرار في تقرير ما هو الأفضل. وفي حالتنا، الآن، فيما يتعلق الأمر بغزة، واضح أن العالم لا يضعنا بالحسبان بل يضع إسرائيل.
مفارقة أخرى، انظروا قبل ثلاثين سنة تحديداً كان الحديث عن ممر آمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وكانت فكرة الممر الآمن تعني جملة أشياء يجب ألا تغيب عن البال فهي تأكيد على الوحدة الجغرافية لمناطق السلطة الوطنية بوصفها نواة الدولة الفلسطينية، وتعني وحدة الجغرافيا ووحدة الشعب والتواصل والتكامل. الانتقال بين جباليا والعروب مثلا سيغدو رحلة داخل منطقة واحدة. وأظن أنني من هذا الجيل الذي استخدم الممر الآمن من أجل الاستمتاع بتلك الحرية المؤقتة أو المنقوصة إن شئت، لكنها كانت حرية من نوع ما رغم وجود شرط الاحتلال في قلبها حتى لا يظل في بال من يريد أن يستدعي آلام المرحلة شيء. الأمر الآخر أن هذا الممر الآمن يمر في قلب فلسطين كلها. صحيح أن لا سيادة ولا ولاية على الطريق لكنه الطريق الذي يمر من البيت. وبقليل من البلاغة وبخفة اللغة المتقشفة فإن الممر الآمن كان للحظة تحريراً لجزء من البيت. بالنسبة لياسر عرفات كان في هذا جزء من غرور خفي، إنه الغرور الذي يجعل أرض الآباء والأجداد جزءاً من تفاصيل الحياة رغم قسوتها. المفارقة، الآن، أننا نفاوض على ممر آمن بين شمال غزة وجنوبها، ممر يمكننا من العبور من رفح إلى بيت لاهيا شمال وادي غزة. لم نعد نتحدث عن ممر آمن يمر عبوراً من بيت حانون إلى هربيا ودمرا ودير سنيد وبيت عفا وبربرة والجية والمجدل وسمسم وعراق المنشية والفالوجا وصولاً لترقوميا. كان هذا ممراً آمنا حتى في الذاكرة وفي وعي نسج حكاية الاستمرار الوطني. الآن، الممر الآمن المرجو هو ممر يعيد أهلنا المهجرين من الجنوب للشمال ويسمح بحرية الحركة. مرة أخرى، أي شيء قد يخفف من معاناة أهلنا أمر مستحسن ويجب السعي وراءه. ولكن أيضاً علينا ألا ننسى مآلاتنا ونحن نفكر في الغد من أجل أن يظل هذا الغد قائماً وقادراً على أن يعني شيئاً إن ليس لنا فلأبنائنا.
مرة أخرى، لن يكون لنا ميناء بل سيكون لديهم أي للعالم ممر إنساني يخفف من وقع المأساة على ضميره وقد يتم تطويره بعد ذلك مع هذا، وهذه نقطة يجب أن تكون موضع نضال واشتباك سياسي مع العالم من أجل إعادة توظيف هذا الممر، ولن يكون لنا إلا ممر مؤقت بين الشمال والجنوب، لذا يجب إعادة هيكلة المطالب السياسية من أجل وقف الحرب والعدوان على شعبنا وخروج الاحتلال من القطاع على الأقل وفق أقل شروط أوسلو «اللعينة» كما يود خصومها أن يصرخوا، في سبيل تمكين عملية إعادة إعمار القطاع. وكل ذلك لا بد أن يكون دائماً وفق رؤية سياسية متكاملة قائمة على وحدة مناطق السلطة الفلسطينية.