يبدو أن الرأي العام الدولي بات يدرك طبيعة ومدى التضليل الذي تأسست عليه حرب الابادة الاسرائيلية ضد شعبنا في قطاع غزة، والتي باتت تحصد حياة الأطفال من الجوع والجفاف، ذلك دون أن تتوقف ماكينة القتل عن الاستهداف الجماعي لحياة المدنيين وقتل عائلات بأكملها. فالإعلام الأمريكي والغربي بشكل عام، والذي سبق أن وضع مصداقيته على المحك بفعل انزلاقه الكامل في تبني وترويج الرواية الرسمية الاسرائيلية حول السابع من أكتوبر، والتي استندت إلى ما يعرف بـ "الهسبراه" أي "جهاز الدعاية الإسرائيلية وهندسة الجمهور الغربي"، وفبركة هذا الجهاز وترويجه لسلسلة من الأكاذيب التي استهدفت تحضير الرأي العام الغربي، وكذلك داخل إسرائيل لتبرير مخططات الجرائم وحرب الابادة، وكأنها "حرب عادلة للدفاع عن النفس" في مواجهة ما أسماه نتنياهو بـ"الداعشية الجديدة" و"النازية الجديدة" في محاولة منه ليس فقط لـ"دعشنة" حماس، بل وكذلك لشيطنة المدنيين في قطاع غزة، وبما يشمل حتى النساء والأطفال، حيث اعتبر الرئيس الاسرائيلي هيرتسوغ بأنه لا يوجد في قطاع غزة مدنيون، وقام شخصياً بالتوقيع على القذائف التي استهدفت هؤلاء المدنيين سيما الأطفال والنساء الذين لا حول لهم ولا قوة.
المشاهد التي تمكّن نشطاء الإعلام الاجتماعي في قطاع غزة من خلالها نقل حقيقة ما يجري من إبادة وتدمير شاملين، كسرت الستار الحديدي الذي حاولت "الهسبراه" احكامه لإخفاء بشاعة الجرائم، مستهدفة ما يزيد عن مئة وثلاثين صحافياً، حيث انتشرت هذه المشاهد البشعة عبر وسائل التواصل كالنار في الهشيم، وبات من الصعوبة بمكان حتى لبايدن وبلينكن وغيرهم من زعماء الغرب إخفاء حقيقة المجازر التي استهدفت، وما تزال تستهدف، ترويع المدنيين الغزيين بهدف تهجيرهم، أكثر مما تدعيه إسرائيل بأن حربها تهدف إلى اجتثاث حماس، حيث أن هذا الادعاء وباعتراف قيادات عسكرية هدف زائف، ولا يمكن تحقيقه .
حيوية وثبات واتساع حركات مناهضة الحرب الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، التي نجحت، ليس فقط في هزيمة دعاية "الهسبراه" ، بل أعادت معادلة الصراع وجذور القضية الفلسطينية إلى حقيقتها، وبدأت تحقق تقدماً في اعادة تصويب مضامين الرواية الفلسطينية لشعب يناضل على مدى أكثر من مئة عام في مواجهة الهجمة الصهيونية ومخططات طمس الهوية واقتلاع الوجود الفلسطيني من أرضه منذ النكبة قبل ما يزيد عن خمسة وسبعين عاماً حتى اليوم، ومن أجل نيل شعب فلسطين لحريته وكرامته الإنسانية والوطنية وحقه الطبيعي في تقرير مصيره .
اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، واصرار نتنياهو على عدم مجرد أخذ نصائح بايدن في الاعتبار، والتي هي في وقائع الحرب لا تتناقض كثيراً مع مخططات حكومة الحرب الاستراتيجية إزاء حماس وقوى المقاومة، ولكنها لا تضعه في مزيد من الحرج الذي بات فاضحاً، ولا يمكن تجاهله، سيما مع قاعدته الانتخابية سواء في أوساط الشباب وداخل التيار التقدمي للحزب الديمقراطي وأوساط واسعة من اليهود أو في أوساط الجاليات التي كان لها الدور الحاسم في نجاحه في الانتخابات السابقة (العرب والمسلمون والأفارقة واللاتينيون)، الأمر الذي بات يهدد فرص نجاحه بخطر داهم، الأمر الذي يعني بالنسبة للإدارة وقادة الحزب الديمقراطي، وكأن نتنياهو يستثمر الوقت والتعارض مع ادارة بايدن بما يخدم عودة ترامب للبيت الأبيض، حيث يدرك مدى دعمه لنتنياهو كأولوية قبل إسرائيل.
هذه التحولات وغيرها بدأت تؤثر بصورة جدية في العلاقة بين بايدن ونتنياهو، والتي وصلت حد إعلان زعيم الاغلبية الديمقراطية تشاك شومر بأن نتنياهو بات يشكل خطراً على إسرائيل، ويدعو من موقعه كأكبر المناصرين لها إلى انتخابات لتصويب مكانة إسرائيل دون عبث نتنياهو، الأمر الذي أثنى عليه بايدن وتلاه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس، ما يظهر وجود موقف أمريكي راسخ لإزاحة نتنياهو من المشهد، وربما كمكون من حملة انتخابية مضادة لاستعادة مكانة بايدن في أوساط ناخبيه من هذا المدخل.
في هذا المناخ المتغير ولو ببطء شديد في العلاقة بين ادارة بايدن ونتنياهو، يمكن النظر لتقرير شبكة CNN الإعلامية عن قتل المزيد من الأطفال في قطاع غزة بسبب الجوع والجفاف، والذي عرضت فيه المذيعة بريانا كيلار بعضًا من قصص هؤلاء الصغار الذين قتلوا إما نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية أو بسبب الجوع والجفاف، كتحول بارز في الإعلام الأمريكي وانتصار للانتفاضة الكونية المناهضة للحرب، وسقوطاً مروعاً للهسبراه ومعها أكاذيب نتنياهو وحكومة حربه الفاشية التي لم يستثنيها تشاك شومر من هجومه .
الملفت للانتباه، بل، والمثير للحزن أنه في ظل هذه المتغيرات التي يمكن البناء عليها بما يفتح الطريق نحو فرض عزلة دولية واقليمية على حكومة الحرب ومساءلتها، بما في ذلك ما يجري في محكمة العدل الدولية، ومحكمة الرأي العام، واستثمار الانقسام داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه، وما يتطلبه كل ذلك من وحدة وتوافق فلسطينيين، وبلورة رؤية وخطاب وخطة وأدوات فلسطينية وطنية جامعةً وقادرة على تحقيق ذلك، وبما يشمل تعزيز قدرة شعبنا على الصمود في مواجهة حرب الابادة والاستيطان والحسم. للأسف فقد تم ادارة الظهر لكل هذه القضايا التي ترقى لحاجة وجودية لقضيتنا وحقوق شعبنا وقدرته على الصمود ومواصلة النضال لاستعادتها، والأخطر هو العودة لخطاب الانقسام وتصفية الحسابات الضيقة، والانزلاق نحو اتهامات، أخطر ما فيها هو تبرئة جيش الاحتلال من مسؤوليته عن جرائم الابادة الجماعية، وتحميلها لأطراف فلسطينية، الأمر الذي طالما سعت إليه حكومة الحرب، وهو ما سيستخدمه نتنياهو للاستمرار في تبرير حربه التي تستهدف الجميع دون استثناء، وفي مقدمتهم اصحاب سياسة استرضاء المحتل، بهندسة مستقبل النظام السياسي الفلسطيني من خلف الارادة والمطالب الشعبية والوطنية، و بما قد يعرض قضية شعبنا وحقوقه الوطنية لأفدح المخاطر بما فيها خطر التصفية التي هي عنوان وهدف الحرب الغاشمة على شعبنا .