منذ سنوات طويلة وقطاع غزة يعاني من الحصار الإسرائيلي الخانق الذي وضعه في مصاف المناطق غير الصالحة للعيش، وفق تقارير الأمم المتحدة التي تنشر كل عام وتوثق الأوضاع المأساوية والكارثية التي يعيشها سكان القطاع.
قبل السابع من تشرين الأول 2023 وقت عملية «طوفان الاقصى»، لم يكن قطاع غزة سنغافورة العرب كما كان يحلم الفلسطينيون بعد اتفاق أوسلو ومرحلة السلام الضائع، وظل طول الوقت تحت مرمى القصف الإسرائيلي الذي أعاد الحياة فيه إلى القرون الوسطى.
كلما كان ينهض القطاع من الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه، وينفض عنه غبار العدوان الإسرائيلي وسياسات القصف الممنهج والمحسوب، ويبدأ مشوار إعادة الإعمار والتعافي، تأتي حرب جديدة وتضعه على طريق المناطق المنكوبة.
غير أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة ليس كحال العدوانات السابقة من حيث الوحشية والاستهداف والدمار، وكأن إسرائيل قررت مسح القطاع عن خارطة العالم، وهذا ما يحدث بالفعل حين تتكشف آثار آلة القتل الإسرائيلية من دمار جاء على كل هدف متحرك أو ثابت.
الأمم المتحدة في مختلف تقاريرها عن حالة السكان وأوضاعهم المعيشية في القطاع، كانت تحذر من أن غزة على أبواب المناطق غير الصالحة للعيش، وبالفعل جرى في العام 2020 اعتبار القطاع غير صالح للحياة بحكم مجموعة من العوامل، أهمها نقص منظومة الخدمات العامة وعدم الاستجابة السريعة لتحسين إمدادات الكهرباء والمياه، وتفشي البطالة لأكثر من النصف بسبب ضعف الأداء الاقتصادي الناجم عن الحصار الإسرائيلي الخانق.
اليوم غزة تعاني الأمرَّين، إذ عدا عن أنها خرجت عن الخدمة، فهي تعاني من القصف الإسرائيلي المتواصل الذي دمر أغلب الممتلكات العامة وأتى على البنى التحتية، وثمة تهديد حقيقي من خروج المنظومة الصحية عن الخدمة وانهيار مرافق الحياة اليومية.
حتى الممتلكات الخاصة لم تسلم من القصف العشوائي الذي جاء على الكثير من منازل السكان أينما تواجدوا في قطاع غزة، وجرى بالتحديد ضرب المنشآت التجارية والزراعية، وكأن الهدف يتعلق بمنع الفلسطينيين من العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية.
المناطق الزراعية مسحت ضمن سياسة الأرض المحروقة، ووصل الاستهداف حتى قتل المواشي والدواب لإخضاع الفلسطينيين وتجويعهم وملاحقتهم في مصادر رزقهم وقوتهم اليومي، يُضاف إلى ذلك قتل المواطنين العزل الذين يبحثون عن المساعدات الغذائية والإنسانية التي تصل بشق الأنفس إلى قطاع غزة.
إسرائيل ربما كانت تعتقد أن كل محاولات التضييق على الفلسطينيين واستهدافهم المباشر وضربهم في ممتلكاتهم ومشربهم ومأكلهم سيعني بالضرورة الاستسلام ورفع الراية البيضاء، خصوصاً وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يبحث عن صيغة مربحة تحقق له الانتصار لتسويقه داخل وخارج إسرائيل.
نتنياهو يريد تركيع الفلسطينيين وجعلهم يستسلمون حتى يُهوّل ويُكبّر انتصار بلاده على أنه ضمانة لاستمراره في رئاسة الحكومة، والمشكلة أن كل السياسيين في المعسكرين اليميني واليساري يشاطرانه الرأي بأن على إسرائيل جلب انتصار بأي صورة كانت.
بعد كل هذا التدمير الهائل والمحسوب لغزة، لم تحقق إسرائيل أياً من أهدافها التي وضعتها في بداية العدوان، وبدا أن الوقت لم يعد في صالحها، خصوصاً مع الانعطافة البسيطة في الموقف الأميركي إزاء طبيعة دعمه لهذه الحرب على غزة.
بصرف النظر عن امتناع واشنطن عن استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي لصالح قرار يدعو لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، إلا أنها لم تتخل عن إسرائيل وتمدها كل الوقت بالأسلحة الضرورية التي تلزمها.
ومع تنامي الضغوط الدولية والأصوات التي تدعو لوقف إطلاق النار وترجمة قرار مجلس الأمن بهذا الشأن، تشعر إسرائيل أنه لا يزال أمامها الوقت لاستهداف الفلسطينيين وتوسيع العدوان إلى كامل محافظة رفح جنوبي القطاع، لكن حتى هذه اللحظة لا توجد خطة واضحة بهذا الشأن.
في كل الأحوال، إسرائيل يدها طويلة وبالفعل وصلت إلى رفح بمختلف الوسائل التكنولوجية التي تمتلكها وأسطول طائراتها الحربية والمسيّرات التي تحوم كل الوقت فوق سماء غزة، وحالياً تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي للتعرف على هويات المواطنين عبر كاميرات نصبتها في غزة وعلى أجسام «مسيّراتها» في الجو.
غير أن مسألة اجتياح رفح قرار لا يمكن أن تتخذه إسرائيل بدون مشورة ومشاركة واشنطن، ولذلك فإن نتنياهو سيرسل وفداً إلى الولايات المتحدة الأميركية هذا الأسبوع للبحث في إمكانية توسيع العدوان البري على رفح، والأميركان يدعمون إسرائيل بشرط تحييد الفلسطينيين المدنيين وتجنُّب سفك المزيد من الدماء، حتى لا تثور ثائرة العالم.
النتيجة أن إسرائيل تبحث عن خروج آمن من قطاع غزة يحقق لها الغلبة، وما يجري حالياً هو تعويض عن فشلها في تحقيق الانتصار بقتل كل حياة ممكنة في غزة وإفقارها إلى أكبر درجة ووضعها على جهاز تنفس صناعي إلى سنوات طويلة جداً.
23 مستشفى في قطاع غزة خرجت عن الخدمة بعد عام على حرب الإبادة
06 أكتوبر 2024