يمكن لي أن أغامر بوضع تاريخ المعركة القادمة التي ستدفع إسرائيل فيها ثمناً أشد فداحة .. بعد 20 عاما! لماذا بعد 20 عاماً؟ فتلك قصة يرويها التاريخ الفلسطيني الذي لم يسمح للصولجان أن يسقط في مواجهة وحشية كتبت تاريخها بالدم منذ أن أقامت دولتها على طرد شعب بأكمله.
20 عاماً لأن جيلا فلسطينيا جديدا سينهض من تحت الركام رافضا الهزيمة، لم يشاهد المعركة التي سبقته، رافضاً ما يقوله شهود العيان، متمرداً على الواقع، جيل أكثر شراسة وإصراراً وعناداً .. 20 عاما، هكذا كانت لعبة الفلسطيني مع التاريخ رغم كل الضربات التي تلقاها، ظل شاهرا تمرده دون انكسار.
20 عاما، كان التاريخ الفلسطيني يتوقف في محطاته الكبرى بعد النكبة. كان جيل جديد يعيد ترتيب الحكاية والصفوف منتصف ستينيات القرن الماضي شاهرا ما يملك من الإرادة والعناد، يخوض معركة الكرامة معلناً ميلاده ومسجلاً حضور الكفاح ورافضا لهزيمة النكبة، ثم بعدها بعقدين كان جيل جديد يتقدم حاملا رأيه التحدي ليفتح انتفاضة ضد المحتل على امتداد الوطن في كل القرى والمدن والحارات.
خمسة عشر عاما وجيل جديد يختصر اللحظة، وتهتز غزة والضفة الغربية على صوت أبو جندل ورفيق دربه محمود طوالبة رافضين كل النظريات القديمة وموازين القوى وحملة الترويع الإسرائيلية فتكون المعركة التي تكتب السجل الفلسطيني حرفاً حرفاً .. نزفاً ونزفاً ويمر عقدان حتى يبلغ القهر غزة ويبلغ الحصار مداه لتجد نفسها تنفجر هذه المرة هناك.
ليست «حماس» من قام بالسابع من أكتوبر. صحيح هي من اتخذ القرار رغم الاختلاف حوله، لكن روح غزة هي من قام بذلك، تلك الروح التي أنتجت ثورة وفصائل من كتلة اللاجئين الضخمة التي وجدت نفسها في تلك المنطقة فظلت مسكونة بالعودة وبرنامجها لأن اللجوء أزمن وطالت رحلة التشتت وزادها القهر والحصار والألم. هذه الكتلة التي أخذت على عاتقها إعادة بعث الوطنية الفلسطينية، صحيح أنها تتعرض للكسر بفعل وحشية لم يشهدها التاريخ وخلل في حسابات الكفاح الذي استعجل رفع وتيرته لكن هذا ليس نهاية المطاف .. سينهض جيل آخر.
الصغار شاهدوا المقتلة، وكل اليتامى يعرفون من هو قاتل أبيهم. فالضحية لا تنسى قاتلها بل إن ما يسكن عقلها هو لحظة الانتقام. والإسرائيلي لا يزرع سوى الحقد والكراهية ومن يزرع الريح يحصد العاصفة، وقد زرعت إسرائيل من رياح الكراهية ما يكفي لعقود قادمة ولم يكن ما جناه الشعب الإسرائيلي سوى حصاد ما زرعته حكوماته وجيشه على امتداد عقود طويلة من الموت والعذاب.
دوماً، ترسب إسرائيل في قراءة درس التاريخ، وفي كل امتحان سنوي تحصد صفرا في علامة النجاح. ففي كل مرة تستخدم أقصى ما لديها من قوة في محاولة لوقف حركة التاريخ الصاعد أو استيلاد نظريات معاندة له، ولكن هل انتصر احتلال في السابق على الشعوب لتنتصر على أكثر الشعوب ضراوة وتمسكاً بكرامته وقضيته؟ هي كذلك لا حل لديها سوى القوة و»ما لم ينجح بالقوة فمزيد من القوة» دون أن تقرأ هذا التعاقب والتدافع في الأجيال، فكل منها أكثر عنادا ممن يسبقه.
قبل عام ونصف العام، كانت إسرائيل كعادتها في الفشل تقوم بعملية عسكرية ضد المتمردين على الاحتلال سمتها «كاسر الأمواج». اعتقدت للحظة أنها بدأت تدرك أن الشعب الفلسطيني يتتابع كموجات لن تتوقف، ولكن يبدو أن الطبع غلب التطبع وأن العمى الكلي المصابة به يحكم عليها بالسقوط الدائم، هي كذلك ودوما، عقل المحتل مختل، ونخطئ كثيراً إذا اعتقدنا أنه سوي لأنه لو أصبح كذلك سيخجل من سيطرته على شعب آخر ومن قتل شعب آخر وتجويع شعب آخر.
ماذا يريدون من الشعب الفلسطيني؟ أن يعمل أبناؤه سقائين وحطابين وعبيدا لديه؟ أن يستمر في حصارهم ومصادرة أرضهم ويسكتون؟ تلك أمور مضادة لقوانين الطبيعة وقوانين الفيزياء، لأن لكل فعل ردة فعل، ولها أن تستمر بموجات رد الفعل التي لم تنكسر منذ النكبة وستستمر.
مطلع الأربعينيات من هذا القرن سيكون طوفان آخر، وسيحمل اسما جديدا لجيل لن يقبل الاستسلام. حينها سيكون العالم قد تطور وأنواع الأسلحة تغيرت، فالتكنولوجيا تضيق الفجوة في القوة بين الدول. وستكون «الكواد كابتر» لعبة قديمة سيتركها المقاتلون للأطفال يتعاملون معها. سيذهبون لما هو أبعد وسيصرخ الإسرائيليون أكثر، سيبكون أمام العالم بأنهم ضحية الشعب الواقع تحت الاحتلال، حينها سيقول لهم العالم: هذا ما جنته أيديكم وعقلكم وفعلكم وتدني مستواكم وإصراركم على حكم وإهانة غيركم.
التاريخ يتعثر أحياناً ولكنه لا يخطئ في مساره. فكل الذين سلكوا هذا المسار حصدوا الخيبة ورحلوا عن الشعوب واسرائيل ليست استثناء، قد تتمكن من تدمير غزة ولكنها لن تهزم الفلسطينيين. لديها من القوة ما يسحق غزة لكن من يعرف هذه المنطقة الصغيرة يعرف أنها عصية على الاستسلام، فقط تنتظر جيلاً آخر وعلى إسرائيل الانتظار وإذا كانت تعتقد أن ما تفعله الآن سيمر تكون قد سجلت رسوبا جديدا.
ولكن أيضاً على الفلسطينيين أن يكونوا أكثر كفاءة في إدارة صراعهم، ولا تغيب عنهم معادلة التوازن أمام من هو مدجج بكل هذه القوة: كفاح تركمي يسجل نقاطا ويوجع إسرائيل ولا يتسبب لهم بضربة مميتة، فعل ذكي وليس انفعاليا وسينتصرون ...لأن تلك حكمة التاريخ.
هل حان وقت تقييم طوفان الأقصى: معركة تحريك أم تحرير؟
15 أكتوبر 2024