منذ نشأتها لم تتوقف إسرائيل عن خوض المواجهات العسكرية مع جيرانها العرب، وفي مقدمتهم بالطبع الجار الفلسطيني، لكنها ومنذ خمسين سنة، اعتادت أن تواجه عدواً واحداً منفرداً، وكان ذلك في حربها ضد الثورة الفلسطينية عام 1982، ثم ضد المقاومة اللبنانية بعد ذلك حتى العام 2006، وما تخلله من مواجهة المجموعات المسلحة الفلسطينية عام 2000، أما آخر مواجهة عسكرية خاضت خلالها إسرائيل حرباً ضد جبهتين معاً أو أكثر، فكانت حرب العام 73 ضد مصر وسورية معاً، وقبلها كانت حربها ضد دول الجوار العربي الثلاث، مصر وسورية والأردن عام 67، ومن قبل ذلك خاضت حرباً مع بريطانيا وفرنسا ضد مصر وحدها عام 56، فيما كانت إسرائيل قد خاضت حرباً ضد عدة جيوش عربية عام 48.
أي انه سبق لإسرائيل وان خاضت حرباً ضد جبهتي الشمال والجنوب، كما هو حالها، إلى حد ما اليوم، وكان ذلك عام 73، وكانت سورية في الشمال ومصر في الجنوب، ورغم أن جبهات إسناد غزة لا تخوض مع إسرائيل حرباً مفتوحة أو شاملة، إلا أن الجديد الذي لم تعتده إسرائيل، تمثل في أكثر من عنصر، الأول هو طول فترة الحرب، وكان الجيش الإسرائيلي قد أعد لمباغتة الجيوش العربية في حروب خاطفة، مستنداً إلى تفوقه في المعدات خاصة في سلاح الجو، وكان ذلك جلياً في حرب 67، أي أن الجيش الإسرائيلي حتى وهو حين يحقق النصر، كما حدث عام 82، إلا أن طول الحرب بالنسبة له يمثل إنهاكاً وإرباكاً، يضطر معه إلى تلقي الإمداد الخارجي، تحديداً من الولايات المتحدة، كما أن إسرائيل اعتادت أن تبدأ هي الحرب، بحيث تكون قد أعدت لها جيداً، واختارت الزمان والمكان المناسبين، لتحقق النصر بسرعة وبأقل كلفة خاصة على صعيد خسائرها البشرية.
واعتادت إسرائيل أن تدفع حتى تكون أرض الخصم هي ساحة القتال، بما يجنب أولاً مواطنيها أي آثار يمكن أن تلحق بهم من الحرب، كما تجنب اقتصادها أية خسائر يمكن أن تقع جراء تدمير بعض المنشآت الاقتصادية، أو أن توقف حركة الناس فيما لو أن الحرب طالت الداخل الإسرائيلي، ولهذا فإن إسرائيل كسبت حروبها خلال أعوام 48، 67، 82، لكنها خسرت حرب العام 73، فقط لأن العرب، أي مصر وسورية هم من باغت إسرائيل، بتحديد نقطة الصفر، وهم من حددوا زمان ومكان الحرب، وكادت إسرائيل أن تخسر كل ما ربحته في حرب 67، خلال حرب 73، لولا الجسر الجوي الأميركي الذي سارع إلى مشاركة إسرائيل في الحرب، بمدها بكل ما احتاجته من سلاح وعتاد، ومن قدرة استخباراتية، ومن تغطية سياسية، وفي عام 82، ورغم أنها هي من حددت موعد الحرب، وخاضتها ضد طرف وحيد، هو الثورة الفلسطينية، إلا أن صمود الثورة ثلاثة أشهر، أجبر إسرائيل على عقد صفقة خروج المقاومة من بيروت.
اليوم تعود إسرائيل وبعد أكثر من خمسين سنة لخوض حرب متعددة الجبهات، شمالاً وجنوباً وشرقاً، لكن الجديد الذي يمنعها من تحقيق النصر السريع، بل ويلحق بها حتى خسارة الحرب، كما حدث معها في عام 2000 في جنوب لبنان وعام 2005 في غزة، حيث لم تعد إسرائيل قادرة على الاحتفاظ بما احتلته من أراضي الغير بسبب مقاومة الاحتلال، هو أن الحرب صارت أطول، ولم تعد تقتصر على أن تكون ساحة القتال هي الأرض العربية، وبالتالي لا يتأثر المدنيون العرب فقط من الحرب، وقد مرت ستة أشهر على عملية طوفان الأقصى، وعلى حرب إسرائيل على قطاع غزة، وما زالت إسرائيل عاجزة عن تحقيق أهدافها العسكرية، رغم أن الجبهات الأخرى تقوم بفعل الإسناد وليس المشاركة الكاملة، كما أن هذه الحرب، بدأت بمبادرة حماس، وطالت الخسائر الجانب الإسرائيلي بشقيه العسكري والمدني، وهكذا فإن إسرائيل خسرت اقتصادياً وبشرياً، وسياسياً، واحتاجت منذ اليوم الأول للمشاركة العسكرية والاستخباراتية الأميركية.
وأسوأ ما في الأمر بالنسبة لإسرائيل، أن هذه الحرب قد أعادت مجدداً صورتها القبيحة كدولة في حالة حرب مع المحيط العربي/الإسلامي، صورة الدولة التي تخوض حروباً منذ نشأت حتى اللحظة، وتعجز بالتالي عن العيش بشكل طبيعي مع هذا المحيط، لأنها ما زالت لم تحقق السلام مع جيرانها، والعالم كله كان قد ظن بأن صفحة الصراع في الشرق الأوسط، التي إسرائيل هي الطرف الدائم فيه والمسبب الرئيسي له، باحتلالها أرض الغير، ولرفضها إقامة الدولة الفلسطينية، قد طويت، في وقت انخدع فيه الجميع بمن فيهم الأميركيون، بفكرة بنيامين نتنياهو حول تحقيق السلام مع المحيط العربي دون الفلسطينيين، أي بتجاوز حقهم في إقامة الدولة، والانسحاب من أرض تلك الدولة.
وبعد أن اجتهدت إسرائيل عبر تحولها الكاسح نحو اليمين، ثم باتجاه دولة اليمين الدينية، في إغلاق المنافذ أمام انسحابها من أرض دولة فلسطين ومن الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية، وذلك استنادا إلى انتصار الغرب في الحرب الباردة وتفرد أميركا في زعامة العالم، بحيث ذهبت إسرائيل إلى تجاهل استحقاق السلام، ولهذا سعت إلى إغلاق ملف صراعها مع الطرف الفلسطيني، بابتلاع لقمة احتلالها لأرضه عام 67، وأرادت لهذه الحرب أن تحقق هذا الفصل الأخير في إغلاق ذلك الملف، وعملياً كان هذا الملف هو ملف نتنياهو في الحكم، بل وخلال مسيرته السياسية، التي بدأها منذ عام 96، وهو يتابع طريق منع إقامة الدولة الفلسطينية وإغلاق الباب أمام الانسحاب من الأرض الفلسطينية، بل والعودة لاحتلال واستيطان قطاع غزة، الذي سبق لأريئيل شارون أن انسحب منه، وذلك للسطو على 50 كم من شاطيء البحر المتوسط الشرقي، وكذلك السطو على حقل مارينا للغاز الطبيعي.
كان يمكن لبنيامين نتنياهو، لو أن حربه على قطاع غزة، جاءت وفق ما يحلم به، من سحق لـ «حماس» بشكل سريع، ومن زج لأميركا في حرب مع إيران، أن يبقى في الحكم، إلى أن يخرج منه بشكل طبيعي، فيحفظ له التاريخ مكانة مرموقة، كأحد أهم رؤساء الحكومات الإسرائيلية، الذي منع إقامة الدولة الفلسطينية، واحتفظ بأرض فلسطين التاريخية الانتدابية، وكعراب لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، لكن ما حدث حتى الآن، وما هو متوقع من وقوع أو تتابع للأحداث يؤكد بأن نتنياهو لن يحقق ما يريد، خاصة ما يخص أهدافه الشخصية، وإذا كان أنصار شاعر العربية الأول أبو الطيب المتنبي قد اعترضوا على ما نسبه محبو الشاعر الانجليزي الشهير وليام شكسبير من كونه صاحب مقولة « المصائب لا تأتي فرادى» وذلك حين قال : البلايا لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش، فكان رد أنصار المتنبي بأن الشاعر العربي قال قبل شكسبير بقرون: مصائب شتى جمعت في مصيبة .. ولم يكفها حتى قفتها مصائب، أياً يكن شكسبير أو المتنبي من قال ذلك، فإن المثل ينطبق على حال نتنياهو اليوم، فهو لا يواجه الفشل العسكري والسياسي، الذي يبدد كل ما أنجزه خلال مسيرة 30 سنة، بحيث بات العالم كله على قناعة بضرورة فرض حل الدولتين، أي إقامة الدولة الفلسطينية، ولا يواجه احتمال المثول شخصياً أمام القضاء العالمي، ولا الخروج المهين من رئاسة الوزراء، وهو في الوقت الذي شهد فيه التمرير الأميركي لقرار مجلس الأمن 2728، وتشبث حماس في مفاوضات صفقة التبادل، في ظل استمرار التظاهرات الداخلية، مع بقاء مئات ألوف الإسرائيليين مهجرين عن بلداتهم في الشمال والجنوب، وهذا يحدث لأول مرة بتاريخ إسرائيل، يواجه استحقاق التجديد لإعفاء شبان الحريديم من الخدمة العسكرية في وقت تحتاج فيه إسرائيل لعشرات ألوف المجندين، بعد أن طالت الحرب بجيشهم وأنهكته، وبعد أن تعددت الجبهات، كل ذلك يحدث مع الرجل في ظل ولاية اعتمد فيها على اليمين المتطرف الفاشي، بحيث دخل في صراع مع البيت الأبيض منذ أول يوم لتشكيله حكومته الحالية، بسبب ايتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش، ومع القضاء والدولة العميقة ومع كل الجمهور المدني بسبب التعديلات القضائية.
وهكذا فإن أحزاب الحريديم خاصة «شاس» و»يهوديت هتواره» اللذين لم يشتبكا أبداً مع نتنياهو في الملفات السياسية، بما في ذلك مشاكله الناجمة عن حربه على قطاع غزة، قد يتسببان في سقوط الحكومة، أو على الأقل في تفكيك حكومة الحرب، بإصرارهما على عدم تجنيد أنصارهما من الحريديم، فيما تصر المعارضة والجيش ومعهما بيني غانتس على ضرورة مشاركة الحريديم في الخدمة العسكرية، ورغم أنه قد يخرج نتنياهو بحل وسط، من مثل أن يخدم الحريديم في الجيش ولكن ليس في ساحات القتال، أي في إطار خدمة عسكرية إدارية أو داخلية، إلا أنه يمكن القول بأن المصائب قد حلت فوق رأس نتنياهو، وأنه لا مناص أمامه من السقوط في نهاية الأمر.