في تسعينيات القرن الماضي، كانت معظم الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا تقدم شهادات ماجستير ودكتوراه إما في «دراسات الشرق الأوسط» أو «الصراع العربي الإسرائيلي» أو «تاريخ العرب.» بعد أحداث 11 ايلول بدأت هذه الجامعات تُدخل كلمة «الإسلام» إلى مناهجها التعليمية، وتدريجياً أزاحت هذه الكلمة جميع العبارات الأخرى، لتُصبح المناهج العالمية اليوم إما «دراسات إسلامية» أو «الصراع السني ـ الشيعي في الإٍسلام» أو «تاريخ الإٍسلام». تكاد لا توجد جامعة في الغرب اليوم إلا وتستخدم عناوين رائجة من هذا النوع، وكأن الشرق الأوسط خُلق للمسلمين فقط ولا حياة للمسيحيين قبلهم ومعهم. «الدراسات الإسلامية» مربحة جداً هذه الأيام، و «عليها طلب» (كما يقال بالعامية)، تماماً مثل «الخبراء في الشؤون السورية». يكفي أن يقرأ «الخبير» بضعة كتب حول «ألف باء الإسلام» أو «مدخل في تاريخ سوريا الحديث» ليصبح نجم فضائيات ومرجعاً علمياً في أكبر مراكز الدراسات العالية.
اليوم، وبعد مرور خمس سنوات ونيف على ما يسمى بـ «الربيع العربي»، بدأت مدرسة فكرية جديدة تظهر في هذه المعاهد والجامعات، تتحدث عن «المظلومية السنية» في عالمنا بطريقة تشبه عبارات الإمام الخميني عندما حدّث العالم عن «المظلومية الشيعية» قبل عقود. نسمع بعض «خبراء» الإسلام عند الغرب اليوم يقولون إن «أهل السنة مظلومون ويحق لهم بدولة»، سواء كانت تحت راية أبي بكر البغدادي أو غيره في جزء من سوريا أو العراق. هذا الكلام مستفز وساقط تاريخياً، أولاً لأنه يفترض أن «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» تمثل المذهب السني، وثانياً لأنه ينسف تاريخ دمشق الإسلامي. فدمشق هي عاصمة السنة وهي مقام الشيعة وملجأهم وملجأ أهل البيت. منذ أن دخل خالد بن الوليد دمشق وآل البيت يغادرون مدن الصحراء العربية ويأتون إلى دمشق وبلاد الشام للعيش فيها ومع أهلها، والدليل على ذلك أنّ معظم الصحابة الكرام والجيل الأول من المسلمين مات ودفن في دمشق. من بقي في الصحراء هم حصراً أهل نجد أو من جاء إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وأقام بها، أي من وجد في الصحراء ومدنها موطناً أفضل من موطنه الأم. مَن يعتقدون أن دمشق أو بغداد فقدتا إسلامهما فعلاً لا يعرفون شيئاً قط عن تاريخ هذه البلاد وتاريخ الإسلام في الشرق، وعار علينا أن نصفهم بالخبراء.
عندما أطلّ علينا أبو بكر في إحدى مساجد الموصل صيف العام 2014 ليعلن نفسه «خليفة» للمسلمين و «أميراً للمؤمنين»، جاء بعض هؤلاء «الخبراء» ليكتبوا عنه وكأنه فعلاً استمرار طبيعي للنبي محمد ولخليفته الأول أبي بكر الصديق. فكلاهما مُعمم وكلاهما يعتنق الإسلام وكلاهما يقول إنه خليفة لمحمد بن عبد الله. الخلافة عند أهل السنة، وبحسب الحديث الشريف، يجب أن تكون حصراً لقريش، لا ينازعهم فيها أحد، والبغدادي يوقع بياناته الرسمية بإسمه الكامل «أبو بكر البغدادي الحسني القرشي»، أي انه من آل قريش ومن أحفاد الإمام علي عن طريق ابنه الحسين. من لا يعرف الإسلام وتاريخه صدق الأكذوبة، وظهرت مقالات عدة في الصحف الغربية من يومها تخاطب جمهوراً بسيطاً من القراء الأجانب لا معرفة لهم أصلاً بالإسلام، منها ما يقول: «يذكر أن الخلافة الإسلامية أسست بعد وفاة النبي محمد العام 632 م وأُلغيت من قبل الرئيس التركي كمال أتاتورك عام 1924، إلى أن أحياها أبو بكر البغدادي اليوم. أول الخلفاء كان أبا بكر الصديق وآخرهم هو أبو بكر البغدادي».
هذا الكلام الخطير يعني أنه وبالنسبة للبعض في الغرب، فإن أبا بكر البغدادي هو مجرد استمرار توارثي لسلسلة من الخلفاء منهم الصديق أبو بكر والفاروق عمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وفي حين كان هؤلاء قادة حقيقيين، ذوي خلق رفيع وعلم واسع وثقافة عالية، أسسوا دولة عصرية قوامها العدل، واستثمروا بالفنون والعلوم، فإن البغدادي، بعكسهم، هو صاحب ماضٍ مريب. (بمقياس زمانهم) هو متخرج من السجون العراقية وأخذ شهرته بالسيف وبتدمير الآثار وحرق المكاتب وقطع الرؤوس. لا نعرف من هو مستشار البغدادي، الذي همس في أذنه حين قال إن على «ابراهيم عواد البدري» أن يختار اسم «ابو بكر» لنفسه، ولكن من دون شك كانت استشارة موفقة جداً. فالصدّيق محبوب لدى السنة ومعروف تاريخياً كأول خليفة في الإسلام. أبو بكر «الحقيقي» كان سيداً في قومه، تاجراً ماهراً متنوع الأسفار ومطلعاً على حضارات الآخرين. قاد قوافل تجارته من مكة إلى اليمن وسوريا. يعشق الشعر ويشارك في مسابقاته، بالإضافة إلى كونه خبيراً بالأنساب العربية وعالماً ومشرعاً. عندما اعتنق الإسلام ديناً وضع ثروته الطائلة تحت تصرف الرسالة المحمدية، وحمل السلاح برغم تقدمه بالسن، إلى جانب جاره وصديقه محمد. أما البغدادي فقد كان مجرد خطيب في أحد مساجد بغداد، لا تاريخ يذكر له قبل انضمامه إلى تنظيم «القاعدة» في العراق في عهد أبو مصعب الزرقاوي.
المقارنة بينهما تتوقف عند حد تشابه الأسماء. في زمن أبو بكر الحقيقي، لم يكن هناك شيء اسمه «صراع سني ـ شيعي». كان الصديق خليفة لكل المسلمين، وليس زعيماً فقط لـ «أهل» السنة كما يحاول البغدادي أن يكون. البغدادي (أو أبو بكر المزيف)، يروج لنفسه على هذا الأساس، مستغلاً حالة الفراغ الكامل. لم يشعر أهل السنة انهم بحاجة لأي مراجعة لتاريخهم، فهم موجودون منذ بداية الاسلام وباقون بسبب تاريخهم وتعدادهم. فلا داعي مثلاَ لإيجاد مرجعية واحدة لهم، ولا للتكاتف أمام المتغيرات السياسية العالمية، فهذا عادة شأن الأقليات. الأقليات تبني أسواراً حولها لحماية نفسها من الآخر، وتخطط للمستقبل بعناية، نتيجة دروس قاسية وضربات تلقتها عبر الزمن، اما من قبل حكومة ما أو طائفة أخرى. هذا الشعور الجماعي بالاضطهاد ساهم في تعزيز روابط عند الدروز والعلويين والشيعة والإسماعيليين والمسيحيين بكل طوائفهم، ليحموا عاداتهم وتقاليدهم من اضطهاد الآخرين وليضمنوا استمراريتهم في هذا المشرق العربي. لم يشكل السنة يوماً أقلية ولم يتعاملوا مع أنفسهم على هذا الأساس: هم بحر، يتفرع عنه مجموعة من الأنهر من المذاهب والطرق. فلا داعي أن يخافوا على مستقبلهم أو يخططوا كثيرا له، فالشعور أنهم بأمان أزلي في بلادهم، كان دوماً هو السائد.
دعونا نتوقف قليلا مع تجربة الإمام الخميني العام 1979. ظهر الخميني بعد سنوات من المنفى والاضطهاد ليقود، جمهورَهُ من الفقراء، من السجون والمعتقلات الى مفاصل الدولة الإيرانية، مستثمرا في شعورهم الجماعي بالظلم والتهميش الممنهج. ناداهم بالمحرومين والمظلومين، ووعد بنصرتهم على كل من آذاهم عبر التاريخ، وحقيقة هكذا فعل. بغض النظر عن اختلاف البعض معه اليوم، نظراً لحالة الاستقطاب الرهيب في العالم الإسلامي، فقد أسس الخميني مرجعية لكثير من الشيعة، تشبه مرجعية بابا الفاتيكان للكاثوليك والآغا خان للطائفة الإسماعيلية. يحاول البغدادي ان يعيد تجربة الخميني ولكن مع جمهوره من أهل السنة. يحاول ان يعطيهم وزناً سياسياً ومالاً وفيراً وقائداً ليتبعوه، مستفيداً من عدم وجود أي قائد آخر يحمل مشروعاً سنياً في الحكم. المنصب شاغر وهو يرغب بملئه بنفسه.
البغدادي قد يغيب عن المشهد قريباً، لكن هذا ليس مهماً، إذ إن فكره مستمر وكذلك مشروعه. وما يُخشى، فضلاً عن ذلك، هو أن يصبح الإسلام، بسبب بعض «الخبراء» مجرد حالة تدرس في الجامعات الغربية مثل الشيوعية والماركسية، وأن تصبح سيرة أهل السنة وتاريخهم، بسبب أبو بكر البغدادي، مجرد وجهة نظر.
عن السفير