بعد أن تمكّنت الولايات المتحدة الأميركية من كبح جماح إسرائيل، وإقناعها بأن يكون ردّها على الهجوم الإيراني الواسع على الأخيرة في أدنى الحدود، وبأقلّ ما يمكن، سادت انطباعات زائفة بأنّ الأمور عند هذا الحدّ انتهت إلى ما انتهت إليه، وأنّ شبح الحرب الإقليمية قد ابتعد عن سماء الإقليم كلّه. واضح لكلّ من يريد أن يقرأ خفايا الصراع في المنطقة أنّ الولايات المتحدة قد قايضت إسرائيل.
المقايضة تمّت في المجالات الآتية:
بعد أن تأكّدت الولايات المتحدة أنّ إسرائيل لا يمكنها الامتناع التام عن الردّ، لأن مثل هذا الامتناع سيعني من وجهة نظر أغلبية كبيرة من المجتمع الإسرائيلي، ومن وجهة نظر أغلبية ربما أكبر من قبل المجتمع السياسي في إسرائيل تآكل الردع الإسرائيلي الذي سيصبح بمثابة انكسار إسرائيلي أمام إيران.. بعد أن تأكّدت من ذلك لجأت إلى الردّ المخفّف والمحدود مقابل سخاء جديد في التزويد العسكري والمالي لم تتردّد الولايات المتحدة في الإعلان الاستعراضي عنه، وفي تهويل أهميته الأمنية.
وتمّت المقايضة على المستوى السياسي بأن أقدمت الولايات المتحدة على استخدام «حق النقض» لإسقاط مشروع التصويت لحصول فلسطين على عضوية كاملة في الأمم المتحدة.
وواضح أنّ المجموعة العربية في الأمم المتحدة كانت تستبعد أن تقدم الولايات المتحدة على استخدام «حق النقد»، وكانت القيادة الفلسطينية على ما يبدو تراهن، أو أنّها موعودة بأن يكون القرار الأميركي هو الامتناع عن التصويت في أبعد الحدود، وكانت المناقشات المبكّرة حول مشروع القرار توحي كذلك بريطانياً، وأوروبياً، إلى أن جاء موعد التصويت.
الدليل على ذلك أنّ ردّة الفعل الفلسطينية الغاضبة، والخارجة عن «المألوف» الفلسطيني في الخطاب الرسمي أوحت بذلك بوضوح كبير، وظهر الغضب الذي عبّر عنه الرئيس أبو مازن وكأنّه يعكس شعور القيادة الفلسطينية بأنّ الولايات المتحدة ضلّلت القيادة الفلسطينية، ومارست الخداع عليها، ومرّرت القرار بما يشبه الغدر الخبيث.
ردّة الفعل الأميركية على غضب الرئيس أبو مازن، والذي قال كلاماً كبيراً وخطيراً ضدّ سياسات الولايات المتحدة، وتحميلها المسؤولية الأولى عن كلّ ما تقوم به إسرائيل من جرائم لم تظهر إلى العلن بصورةٍ مباشرة، ما يعني أنّ الولايات المتحدة تشعر بأنّها غدرت بالقيادة الفلسطينية فعلاً، وهي ــ أي الولايات المتحدة ــ لو أنّها كانت واضحة وصريحة مع «المجموعة العربية»، ومع القيادة الفلسطينية لما كانت ردّة فعل الرئيس أبو مازن كما كانت عليه.
وجرت المقايضة على مستوى «انقلاب» جديد في الخطاب الإعلامي للولايات المتحدة، إذ عادت للحديث عن تحميل حركة حماس المسؤولية عن عدم عقد صفقة التبادل وسحب كافّة الانتقادات العلنية التي كانت تعبّر عنها الإدارة الأميركية حول المسؤولية الإسرائيلية عن تعطيل الوصول إلى الصفقة.
بل الأنكى من كلّ ذلك أنّ وزير الخارجية الأميركي قد شنّ هجوماً سياسياً على «حماس» في الوقت الذي كانت فيه «حماس» تبدي مرونة كافية على هذا الصعيد.
وهكذا فقد نجحت الإدارة الأميركية بنزع فتيل امتداد الصراع وتوسعته على حساب الشعب الفلسطيني، وقدمت هذه الإدارة لإسرائيل كلّ المطالب التي كانت تريدها الأخيرة مقابل ادّعائها بأنّها كانت بصدد ردّ كبير على الهجوم الإيراني.
هنا بالذات تولّدت الانطباعات الزائفة حول أنّ الحرب الإقليمية قد أصبحت بعيدة، وسادت، وما زالت تسود الأفكار الساذجة التي تربط ما بين مثل هذه الحرب، وما بين الصدام المباشر بين إيران وإسرائيل.
بعض الحقائق بدأت تتكشّف الآن حول أنّ الولايات المتحدة، و»الغرب» كلّه قد هرع لصدّ الهجوم الإيراني كي يضمنوا ألا تُقدِم إسرائيل على تهوُّر خطير أثناء وبُعَيْد الهجوم الإيراني، وبسبب الطابع المغامر والمقامر والمتهوّر للائتلاف الحاكم الإسرائيلي مع معرفتهم ــ أميركا و»الغرب» ــ أنّ إيران كان جاهزة للدخول في حربٍ شاملة إذا أقدمت إسرائيل على تهوّرها الذي كان سيؤدّي حتماً إلى تلك الحرب.
لن تنشب الحرب الإقليمية الكبرى والشاملة فقط إذا بدأت بالصدام بين إيران وإسرائيل، لأنّ مثل هذا الصدام قد يتمّ الوصول إليه، وليس البدء به بالضرورة.
وما زالت الحرب على قطاع غزّة عند درجة جديدة من تطوّراتها، ومن ما يطرأ عليها من مفاجآت، وما يمكن أن يتمخّض عنها من تبعات عسكرية وإنسانية هي المصدر الأوّل والأكبر للتحوّل في هذه الحرب نحو الانزلاق إلى حربٍ إقليمية شاملة وطاحنة، أيضاً.
وعدم التقدم نحو وقف إطلاق النار، وانسداد أُفق الوصول إليه سيُبقي الباب مفتوحاً نحو تلك الحرب.
الولايات المتحدة و»الغرب» من خلال التنكُّر لما يطالب به الشعب الفلسطيني يدفعون نحو تلك الحرب إذا أبقوا الأمور عند هذه الحدود من انعدام الضغط على إسرائيل، ومن توجيه المزيد من الاتهامات للجانب الفلسطيني، والتغاضي المتواصل عن استمرار الحرب لأكثر من 200 يوم.
فالتزويد بالسلاح لم يتوقّف، بل ويزيد من جانب الولايات المتحدة، وكذلك الدعم السياسي لإسرائيل ما زال ثابتاً، ونسبياً من قبل «الغرب»، وما زالت إسرائيل قادرة على ممارسة البلطجة دون رادعٍ حقيقي، لا من «الغرب»، ولا من دول الإقليم، وما زالت المقاومة الفلسطينية وحدها هي التي تتكفّل بالتصدّي لهذه البلطجة.
وطالما أنّ إسرائيل ليست بوارد تحقيق أيّ من أهدافها المعلنة، وخصوصاً إنهاء «حماس» واسترجاع الأسرى الإسرائيليين، وطالما أن «حماس» ليست بوارد التوقّف عن القتال، وهي تصرّ على شروطها لوقف إطلاق النار فإنّ الحرب الإقليمية ستظلّ البند الثاني مباشرةً على حدود أعمال الإقليم.
وحتى أنّ «معركة رفح» نفسها قد تتدحرج إلى ما هو أبعد بكثير من محاولات الولايات المتحدة تصوير هذه المعركة وكأنّها مسألة فنّية عسكرياً، أو تصوير «القبول» الإسرائيلي بالضوابط الأميركية لهذه «المعركة»، وكأنّه تحصيل حاصل.
كما أنّ هناك بعض الإيحاءات والإيماءات بأنّ «بالإمكان» أن تؤدّي هذه «المعركة» إذا جرت إلى تهجير جزئي على الحدود مباشرة كحلّ «مؤقّت» لتفاقم الأبعاد الإنسانية لهذه «المعركة»، بل وتطرح المسألة وكأنها معالجة إنسانية، أو كتفادٍ للأزمة الإنسانية.
كما يمكن أن تنشب الحرب الإقليمية، أو أن تنزلق الأمور نحوها إذا اختلّ التوازن بصورةٍ دراماتيكية بحيث تمكّن أحد أطرافها من إملاء شروطه على الطرف الآخر.
ومع أنّ مثل هذا الاحتمال ما زال مستبعداً إلّا أنّ الوصول إليه سيؤدّي حتماً إلى اتساعٍ كبير في أبعاد الحرب وجغرافيتها.
ولو افترضنا أن إسرائيل تمكّنت من هزيمة المقاومة الفلسطينية وفرض شروطها على القطاع فإنّ نهاية الحرب لن تكون ممكنة، واتساعها يصبح حتمياً وبأشكالٍ يصعّب مدى حدّتها وشموليتها، وقد تكون أبعد وأكبر وأخطر ممّا تبدو عليه الآن.
أما إذا استطاعت المقاومة الصمود، وفشلت إسرائيل كلّياً من الزاوية العسكرية، وأصبحت التداعيات لهذا الفشل تعكس نفسها داخل القطاعات العسكرية الإسرائيلية فإنّ احتمال نقل المعركة بصورةٍ دراماتيكية إلى الضفة الغربية يصبح «الحل» الوحيد أمام حكومة الفشل والإخفاق الإسرائيلي، وهنا يمكن أن تتطوّر الأمور إلى ما هو أبعد من مجرّد الاقتحامات الإسرائيلية للتجمُّعات الفلسطينية في بعض المدن والقرى والمخيمات التي تتواجد فيها أنوية مسلّحة وصلبة، وباتت تمتلك مقوّمات أعلى في التصدي لقوات الاحتلال.
وأخيراً قد تنشب الحرب الإقليمية عن تفاقم العمليات العسكرية بين القوات الإسرائيلية وقوات «حزب الله» اللبناني، وخصوصاً إذا حاولت إسرائيل تصدير أزمتها إلى تلك الجبهة، وإذا ما ترافق الإخفاق الإسرائيلي مع التطوّرات التي تشهدها الحالة الداخلية في إسرائيل.
صحيح أنّ إسرائيل تخشى الانزلاق نحو مثل هذا التصعيد على جبهة جنوب لبنان، وذلك بالنظر إلى ما يمتلكه «حزب الله» من أسلحة متطوّرة، وما لديه من عديد القوات، ومن نوعيتها، وصحيح أنّ الولايات المتحدة و»الغرب» كلّه يعملون ليلاً ونهاراً لتفادي توسيع الصراع على جبهة الجنوب اللبناني، لكن الصحيح، أيضاً، أنّ استمرار الاستنزاف المتبادل في تلك الجبهة يمثل أكبر التحديات التي تواجه إسرائيل هناك في ظلّ الفشل الإسرائيلي بإرجاع أكثر من مئة ألف «مُهجَّر» إسرائيلي إلى المستوطنات المقامة على الحدود مع الجنوب اللبناني، وفي ظلّ الشلل شبه التامّ لكامل المنطقة والتبعات الاقتصادية الباهظة لهذا الشلل.
وبكلّ هذه المعاني فإنّ نزع الفتيل في المواجهة بين إيران وإسرائيل لا يجوز أن يُنظر إليه وكأنّه قد أغلق دائرة هذه الحرب وتحوّلاتها المحتملة.