تحوّلت مدينة رفح جنوب قطاع غزّة إلى الملجأ الأخير للغزيّين، وهي المدينة الوحيدة التي لم تشهد اجتياحاً برياً إسرائيلياً بعد. هناك يعاني الغزيون من جراء غلاء أسعار السلع، ونقص الإمكانيات المتاحة والاحتياجات الأساسية، التي تدفع عدداً منهم إلى بيع المساعدات التي يحصلون عليها من أجل تأمين النواقص التي يحتاجون إليها. لكنّهم يقعون ضحية استغلال متواصل من قِبل سماسرة تشتري المساعدات لبيعها لهم مرة أخرى بأسعار مرتفعة.
ومع دخول الحرب شهرها السابع، نشط التجار والسماسرة الذين يعتمدون على تجارة المساعدات، وقد أصبح لها سوق يلجأ إليه الناس للمبادلة. لكن بعض هؤلاء يعمدون إلى الاحتيال على النازحين. سماسرة المساعدات هم إما تجار مستقلين، أو يعملون برفقة أصحاب محال تجارية تتواجد على مقربة من نقاط توزيع المساعدات، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وغيرها، أو أمام شاحنات المساعدات ومعبر رفح، بالإضافة إلى بعض مناطق تواجد خيام النازحين من أجل شراء المساعدات من البعض وإعادة بيعها لآخرين من النازحين.
في هذا السياق، تكثر شكاوى النازحين الذين يضطر بعضهم إلى شراء المساعدات بأسعار قليلة مقارنة بسعرها الحقيقي في السوق، وعدم وجود جهات رقابية لمحاسبتهم، رغم التواجد الملحوظ للشرطة واللجان الشعبية، لتنظيم عمليات البيع ومكافحة محاولات احتكار السلع أو استغلال احتياجات النازحين، وهو ما يؤكده عبد الحكيم النجار، وهو نازح من مدينة غزة منذ أربعة أشهر ويتواجد في مدينة رفح، وقد تعرض لاستغلال بعض التجار مرات عدة لدى شرائه بعض المعلبات والدقيق.
النجار هو أحد الذين اعترضوا على بيع الناس المساعدات لصالح السماسرة، وتقدم بشكاوى لشرطة رفح، لكنهم يبررون تلك الأفعال بتعقد الحالة الأمنية الصعبة في المدينة، واكتفوا بتقديم نصائح له بعدم التعامل معهم فقط. يقول النجار: "نحن بحاجة لعلاج فيما يحتاج آخرون لشراء طعام آخر غير الذي يوزع، مثل الخضار. نحتاج ذلك من أجل أطفالنا ما يضطرنا إلى بيع المساعدات. للأسف، لا تشتري المتوفر بسعر معقول. نجد استغلالاً من كل التجار وليس هناك ضبط للحالة بالمطلق".
ما يزعج الغزيون أيضاً هو أن عدم ضبط حالة السوق ومنع ممارسات الاستغلال من قبل التجار والسماسرة في شراء المساعدات، يؤدي إلى إبقاء حالة الاستغلال والشراء بأسعار قليلة والفساد، حتى أن أحد المتطوعين لتوزيع المساعدات أصبح يشتري المساعدات من المواطنين لإعادة بيعها في السوق بسعر أعلى. ويعرض خدماته على الفئة المستهدفة من النازحين.
ويشكو المواطن علاء أبو حالوب من توزيع المساعدات، إذ توزيع بعض الأصناف بشكل متكرر ولا تلبي احتياجاتهم اليومية للغذاء. وفي ظل حالة الفقر الشديد، يضطرون إلى بيعها لتأمين احتياجات أخرى، لكنهم يستغلون من قبل السماسرة. يضيف أنه لا خيارات أمامهم على الرغم من فرض أسعار مبالغ بها. فيجد نفسه وآخرين مضطرين إلى بيعها للتجار.
البضائع الأكثر تداولاً بين النازحين على مدار أشهر العدوان هي الدقيق والسكر والأرز والمعلبات والأغطية والخيام. ويقول أبو حالوب: "يتحايل علينا السماسرة لشراء المساعدات من دون رقابة. وفي حال اعتراض النازح لا يشتري أحد منه. أشعر وكأنني بين أيدي أفراد عصابات".
ويعد بيع المساعدات تجارة متعارف عليها في قطاع غزة منذ عشرات السنوات، وخصوصاً في المناطق الواقعة على مقربة من مراكز توزيع مساعدات أونروا في محافظات القطاع الخمسة، وداخل محلات متخصصة للمواد التموينية. وتضطر عدد من العائلات، وتحديداً اللاجئين منهم، إلى بيعها لتأمين احتياجات منزلية أخرى. وتعد أسعار البيع متعارف عليها بين الغزيين وليس كما هو الحال اليوم.
وفي نقاط توزيع المساعدات، يشارك بعض المواطنين في التوزيع بصفتهم متطوعين، ويرتدون سترة تشير إلى أنهم يتبعون المؤسسة أو المنظمة المعنية بتوزيع المساعدات، لكن يتبين أنهم تولوا هذه المهمة بناءً على ترشيحهم من قبل معارف لهم، أو "لثقة العاملين في المؤسسات بهم" كما يقولون، في إشارة إلى أنهم يتولون مهمة توزيع المساعدات من خلال "وساطة" لتسهيل عملية بيع وشراء المساعدات من النازحين في السوق الموازية.
ويتواجد بعض هؤلاء في الصباح داخل مراكز التوزيع بمدارس أونروا. لكن بحلول العصر في الأسواق، يبيعون بعض المساعدات التي حصلوا عليها من النازحين. ويقول أبو صلاح، وهو من سكان منطقة تل السلطان بمدينة رفح، ويتواجد في سوق مخيم يبنا في مدينة رفح، إنه تطوع في الصباح ويعمل في السوق من أجل كسب قوت يومه، لافتاً إلى أنَّ عدد من النازحين يعرضون عليه بيع مساعداتهم.
ضبط الاحتكار والاستغلال
وسط حالة الانفلات الأمني واستغلال التجار، تجري محاولات أخيرة لضبط الحالة الأمنية ومنع الاحتكار في الأسواق وخصوصاً في مدينة رفح جنوب القطاع والمنطقة الوسطى، من خلال لجان الحماية الشعبية التي تتكون من مجموعة مسلحين من أجل ضبط الحالة الأمنية ومحاولات السرقة، بالإضافة إلى استغلال التجار للنازحين.
يؤكد مسؤول لجان الحماية الشعبية سعد الوادية، على وجود مستغلين وسماسرة لشراء المساعدات وإعادة بيعها، ما يُشكل ضغطاً كبيراً على للنازحين. ويقول: "قمنا بضبط عدد من التجار المستغلين واللصوص والسماسرة، واستطعنا إلزام البعض بعدم الاستغلال لكن الحالة الأمنية لا تساعد على ضبط كل شيء في قطاع غزة كما يجب، بالإضافة إلى غياب مرافق وجهات لتقديم الشكاوى".
سماسرة لبيع الخيام
بالنسبة للسماسرة، فإن أغلى المساعدات التي يمكن أن يحصلوا عليها ويعيدون بيعها مرة أخرى هي الخيام المُقدمة من المنظمات الدولية والدول المانحة التي تأتي بأشكال وأحجام مختلفة. ويقول يحيى أبو زيد: "اضطررت إلى بيع الخيمة لأنني أريد شراء أغراض خاصة لزوجتي وابنتي، وخصوصاً أننا خرجنا من دون ملابس". يضيف: "صُدمت لأنها بيعت بثلاثة أضعاف سعرها الحقيقي، وأنا وغيري لا نستطيع تقديم شكوى ضد من اشتراها، وهو نفسه السمسار الذي يشرف في بعض الأحيان على عمليات توزيع المساعدات في نقاط تواجد نازحين مثل المدارس".
إلى ذلك، يقول أحد السماسرة الذين كانوا يتواجدون على مقربة من مركز توزيع المساعدات، الموجود على مقربة من الشارع العام لمدينة رفح في منطقة سوق البلد، إنه "كان لديه خيمة صغيرة مستعيناً بإحدى الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي لشكل الخيمة، وأغطية مقدمة المساعدات، وقد عرض شراء الخيمة بـ 600 شيكلاً (حوالي 157 دولاراً)، والغطاء بـ 40 شيكلاً (حوالي 10 دولارات).
لكن الخيمة بيعت بقيمة 2500 شيكلاً (حوالي 650 دولاراً)، والغطاء بـ 120 شيكلاً (حوالي 30 دولاراً). يضيف: "أبيع للتجار بنسبة ربح بسيطة وهذا ليس استغلالاً"، مضيفاً أن من لا يعجبه ذلك الأفضل ألا يبيع ولا يشتري.
وتستقبل مراكز الشرطة شكاوى المواطنين في مدينتي رفح ودير البلح، باعتبار أنها أكثر المحافظات استقراراً في قطاع غزة. في المقابل، هناك أولوية للتفاعل مع بعض الشكاوى، كما يشير عقيد الشرطة إبراهيم أبو صبح في مدينة رفح.
ويقول: "ضبطنا عدداً من الحالات بوجود مستغلين لحاجات النازحين، بين التجار والسماسرة وأجبرناهم على توقيع التزام خطي، ونقوم حالياً بمحاولة مكافحة جميع صور وأشكال الاستغلال والفساد الحاصل في عمليات تداول وتجارة المساعدات، لكن الصعوبة تكمن في أننا في مرحلة عدوان وقصف، ونتطلع لهدوء نسبي من أجل ضبط الحالة".
في المقابل، تنظر عدد من المؤسسات الأهلية العاملة في قطاع غزة، وعلماء الاجتماع في لجنة الطوارئ لإدارة شؤون قطاع غزة، لإعادة توحيد الأسعار وتحديدها ضمن لجان رقابة مع تفعيل دائرة الشكاوى ومتابعتها ضمن نطاق عمل الشرطة المحلية في المناطق التي تشهد استقراراً.
ويشدد أستاذ علم الاجتماع محمد أبو جمعة، وهو ضمن اللجنة الاستشارية للجنة الطوارئ، على تقديم اقتراح لفرض رقابة على الأسعار والاستغلال الحاصل في الأسواق، بعدما فشل مرات عدة تنفيذ الصيغة الموحدة لضبط الأمر خلال الأشهر الماضية. ويتحدث عن اقتراب التوصل لإتفاق بما يضمن تفعيل الرقابة من خلال تواصل الناس مع الشرطة والإبلاغ بسهولة عن أي عملية استغلال حاصلة.
ويقول أبو جمعة: "رصدنا عدد من ظواهر الفساد المتعلقة بالمساعدات، ومنهم سماسرة كُثر. لكن ننتظر فصل لجنة طوارئ وإدارة الشؤون الاجتماعية والإنسانية في غزة، كلجنة إنسانية بالتوافق مع مؤسسات دولية لضمان التواصل والحماية. يجب الإبلاغ عن الفساد والاستغلال من خلال ملصقات توضع على مراكز النزوح، ووضع رقم تبليغ، وإنشاء لجنة شرطية لضبط الحالات في أقرب وقت، وهذا ما أتطلع لتنفيذه قريباً".