قاعدة أميركية في النقب: تغييرات عسكرية جديدة

thumb (1).jpg
حجم الخط

الكاتب: أشرف العجرمي

 

الكشف عن إنشاء قاعدة عسكرية أميركية سرية في صحراء النقب بمحاذاة قاعدة «حتسيريم» الجوية الإسرائيلية -حسب ما ورد في موقع إنترسبت- يعكس تغيراً جيوسياسياً استراتيجياً في المنطقة، خصوصاً وأن الحديث يدور عن قاعدة ضخمة تضم نحو ثلاثة وعشرين ألف جندي أميركي ومعدات وأسلحة جديدة ومتطورة جداً. وستقوم القوات الأميركية في هذه القاعدة بمناورة مع القوات الإسرائيلية تحاكي هجوماً من إيران والعراق وسورية. والجديد ليس فقط بناء قاعدة بهذا الحجم في إسرائيل، بل رغبة الولايات المتحدة في الاستعاضة عن قواعد في الدول العربية. وهذا التغيير الكبير وغير المسبوق في السياسة العسكرية الأميركية جاء بعد تطورات عديدة شهدتها منطقة الشرق الأوسط.
التطور الأبرز الذي استدعى تغييراً في الاستراتيجية الدفاعية الأميركية كان هجوم السابع من أكتوبر وحرب غزة، وفي هذه الحرب ثبت بشكل قاطع أن جيش الاحتلال الإسرائيلي هش ولا يمكن الاعتماد عليه في حرب طويلة، ويعاني من ترهُّل وتضعضُع متزايد، برز في الاحتجاجات على الانقلاب القضائي الذي حاول بنيامين نتنياهو وحكومة أقصى اليمين العنصري المتطرف تنفيذه. وكانت الصدمة الكبرى في انهيار الجيش وخاصة فرقة غزة في السابع من أكتوبر، تلتها صدمة أخرى مرتبطة بعدم قدرة الجيش على الصمود في حرب استنزاف بدون الدعم العسكري الأميركي والغربي، وأيضاً عدم قدرته على تحقيق الانتصار على بضعة آلاف من المقاتلين في غزة برغم عمليات القتل والتدمير الواسعة غير المسبوقة على نطاق دولي. فقد فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي من الأهداف الثلاثة التي وضعها نتنياهو والحكومة الإسرائيلية له والتي تتمثل في القضاء على حركة «حماس» وإنهاء حكمها، والإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين من مدنيين وعسكريين في غزة، ومنع غزة من أن تشكل تهديداً مستقبلياً لإسرائيل.
        إسرائيل كانت تشكل أكبر قاعدة برية للولايات المتحدة من حيث قدرة الجيش الإسرائيلي المزود بأحدث الأسلحة الأميركية على القيام بدور الذراع العسكري الأقوى في الشرق الأوسط، والذي يستطيع المساهمة في الدفاع عن إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة وقت الضرورة. بعد حرب غزة لم يعد هذا الجيش يمثل هذه القوة التي يمكن الركون إليها، وبناء على ذلك اتخذت الإدارة الأميركية قراراً بالاعتماد على قواها الذاتية للدفاع عن مصالحها وحتى الدفاع عن إسرائيل. والهجوم الإيراني الرمزي على إسرائيل رداً على اغتيال قادة عسكريين إيرانيين في القنصلية الإيرانية في دمشق أظهر أن إسرائيل بحاجة لحماية، فأكثر من 90% من الصواريخ والمسيّرات التي أُطلقت نحو إسرائيل جرى إسقاطها من قوات وقواعد غربية في المنطقة قبل أن تصل إلى إسرائيل.
    وهناك تطور آخر كان له الأثر في بناء هذه القاعدة الكبيرة في إسرائيل، وهو تحفظ الدول العربية وعدم رغبتها في أن تستخدم الولايات المتحدة قواعدها لضرب إيران أو الاعتداء على أي دولة في الجوار، وذلك لخشيتها من أن تقوم إيران بالانتقام من هذه الدول بدلاً من الانتقام من أميركا أو الانتقام المزدوج. وبالتالي لا بد من البحث عن مكان بعيد نسبياً عن إيران يحفظ أمن إسرائيل ويعزز قوتها ويعيد لها نوعاً من الردع والاعتبار من جهة، ويعمل ضد أي طرف في العالم دون قيود من جهة أخرى.
      مرة بعد مرة تنكشف أكاذيب إسرائيل وزيف ادعاءاتها بأن جيشها لا يقهر، وأنها قادرة على الانتصار في أي حرب تخوضها. والحقيقة أن الجيش الإسرائيلي بالرغم من كونه يمتلك آلة حربية هي الأكثر تطوراً في المنطقة، لم يعد ذلك الجيش الذي يخيف دول الجوار، فاعتماده كان على الحرب عن بُعد من خلال القصف بالطائرات والصواريخ دون تعريض الجبهة الداخلية للخطر. الآن بدا واضحاً أنه من اللحظة الأولى لاطلاق إسرائيل أي صاروخ ستكون الجبهة الداخلية معرضة للأذى. ومنذ بداية حرب غزة وحتى الآن لا يستطيع الجيش الإسرائيلي تأمين الحماية لجبهته الداخلية واضطر إلى اخلاء حوالى ربع مليون مواطن من غلاف غزة ومنطقة الشمال، بسبب وجود فصائل فلسطينية مسلحة لا تزال تقاتل في غزة ووجود «حزب الله» في جنوب لبنان واطلاقه النيران بشكل يومي باتجاه المواقع والبلدات والمدن الإسرائيلية.
      لقد خسرت إسرائيل سمعتها العسكرية وبدت في حالة واهنة تعتمد على الدعم العسكري اليومي من الولايات المتحدة والدول الغربية بجبهة منقسمة وضعيفة، بل إنها خسرت مكانتها المعنوية، وهذه ربما هي الخسارة الأكبر التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تعوض إسرائيل حيالها لا بقواعد عسكرية ولا بجسور جوية وبحرية. فإسرائيل اليوم هي دولة مجرمة ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني وتمارس سياسة عقاب وانتقام جماعي ضد الغزيين. ولم تعد بأي حال «واحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط ودولة القانون والنظام التي تحرص على احترام القوانين والأنظمة الدولية. طبعا هذه كانت ادعاءات كاذبة ولكن كان العالم يصدقها ولم يعد كذلك. وتحولت إسرائيل بعد حرب غزة إلى عبء على أصدقائها وحلفائها. وهذا سيتضح أكثر بعد أن تصل الحرب إلى نهايتها.