عن «قناع بلون السماء»

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 

«قناع بلون السماء» (240 صفحة من القطع المتوسط، دار الآداب، بيروت) هي الرواية الخامسة للأسير الفلسطيني باسم خندقجي، المحكوم بثلاث مؤبدات بتهمة مقاومة الاحتلال، وهي الأولى ضمن رباعية ستصدر لاحقاً بعنوان «رباعية المرايا»، وكان أصدر قبلها ديوانَين شعريَّين قبل أن يتجه للرواية، ويحفر اسمه كروائي متميز، استحق الفوز بجائزة البوكر 2024.
لنبدأ بتفكيك العنوان واكتشاف رمزيته، القناع: هو الغطاء التي يخفي الوجه، حيث الوجه هو الذي يدل على الهوية، واستخدام الوجه والقناع للدلالة على إسقاطات البشر على بعضهم البعض بتقسيمات عرقية وعنصرية تتحدد على أساس اللون وتقاطيع الوجه، وحتى اللهجة. وسيستخدم رمزية القناع في استعارة أخرى مستعيناً بما كتبه الروائي الإسرائيلي ا. ب يهوشع، في روايته «إزاء الغابات»، عن الغابات التي زرعتها إسرائيل فوق القرى المدمرة لإخفائها، وحيث يقطع الإسرائيلي لسان العربي حتى لا يفصح عنها، لكن هذا العربي يقوم بحرق الغابة لتظهر البيوت، والسناسل، وشواهد القبور، وغيرها من شواهد الحضور الفلسطيني التاريخي من تحت الرماد.
أما عن لون السماء فهو الأزرق المحايد، أو هو الأفق والمدى الواسع والسماء الشاسعة التي تغطي عموم البلاد، أو لون الهوية الإسرائيلية، أو لون العيون الزرقاوات، أو لون علم إسرائيل.. المهم في النهاية ينزع نور القناع عن وجهه، ليعود إلى حقيقته، وهويته الأصلانية.
تدور أحداث الرواية في الزمن الراهن، حيث يعثر بطل الرواية «نور» على بطاقة هوية زرقاء لإسرائيلي يدعى «أور شابيرا»، داخل جيب معطف اشتراه من سوق البالة، ولأنه باحث ومهتم في التاريخ والآثار، وكان يهم بكتابة رواية تتتبّع مريم المجدلية، فقد قرر استخدام الهوية الزرقاء، وتقمص شخصية صاحبها الإسرائيلي، فيلتحق ببعثة تنقيب أجنبية، وبما أنه أشقر اللون بعينَين زرقاوَين ورثهما عن أمه التي ماتت أثناء ولادته، فإن شكله وإجادته العبرية والإنجليزية بطلاقة جعلا دوره «كيهودي أشكنازي» يبدو سهلاً ولا يثير الشكوك.
أثناء التنقيب عن الآثار في كيبوتس مقام على أراضي قرية أبو شوشة المهجرة، وهو المكان الذي شهد أحداثاً مروّعة أثناء النكبة، يلتقي بفتاة فلسطينية اسمها سماء إسماعيل، وهي من حيفا، وبالتالي تحمل هوية زرقاء، لكنها كانت تواجه الإسرائيليين والأميركيين بحقيقة هويتها الفلسطينية العربية، وتعبّر عن اعتزازها بها، وتصرح بوضوح أن الهوية الإسرائيلية مفروضة عليها. تستخدم سماء كلمة البلاد (تغييب اسم فلسطين وإسرائيل). وهنا تعالج الرواية نظرة الفلسطينيين في إسرائيل إلى أنفسهم، وهم يحملون هويات إسرائيلية ويتمتعون ببعض مزايا الدولة، ويعيشون تفرقة عنصرية، ومصنفين بشكل غير رسمي كمواطنين درجة ثالثة، وأيضاً نظرة الآخرين لهم.
يحلم نور بأنه ذهب إلى بئر بقرب الكيبوتس، وهناك يعثر على مريم المجدلية، وفوجئ بأنها تشبه تماماً سماء إسماعيل، فيرسل رسالة لصديقه مراد قائلاً: «أظلمت آفاق روايتي المجدلية، وحلّت محلها تجليات سماء».
تنتهي الرواية بخروج نور من الكيبوتس بعد إلغاء عملية التنقيب بسبب أحداث «مسيرة الأعلام» في القدس، وتقلّه سماء بسيارتها إلى رام الله، وهناك يمزق هويته الزرقاء ويخرج هاتفه ويعيد برمجته من العبرية إلى العربية.
أثناء الرواية تجري حوارات عديدة بين «سماء» الفلسطينية و»إيليانا» الإسرائيلية الصهيونية، وأيضاً حوارات بين «نور» و»أور»، من خلال استخدام هوية الآخر (العدو)، في تعبير عن صراع داخلي عنيف حول الهوية، وكأنه يجري حواراً مع نفسه ليفسر حالة الاغتراب التي تتجلى في أسئلته: من أنا؟ من أبي؟ ما هي هويتي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟ ومخاوفه من عواقب اكتشاف وجهه الحقيقي. وحين يقرر الاعتراف لسماء بأنه فلسطيني ومقيم في مخيم برام الله، ترد عليه بأسف: أنتظرُ عمراً كاملاً للخلاص من هذه الهوية، وأنت خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع. وهنا نلحظ تمازجاً خطيراً في داخل شخصية نور المزدوجة، أحياناً تغيب الأنا ويحضر الآخر، وأحياناً العكس.
مع أن كلاً من نور وأور يتمسكان بموقفَيهما، لكن «أور» يسكت حين يواجهه «نور» بأن الحركة الصهيونية استغلت الهولوكوست لتشرعن التطهير العرقي، وحينها يطلب نور من أور أن ينظر إليه كإنسان، فيجيبه: أخشى من اختفائي أنا إذا أصبحت أنت إنساناً. وكأن الإسرائيلي الصهيوني يستمد شرعية وجوده ويعبّر عن هويته من خلال نفي الفلسطيني وإنكار آدميته.
وهناك حوارات أخرى مع صديقه «مراد»، وهو أسير محكوم بالمؤبد، ويعبّر عن ضمير نور ويشكل معاملاً موضوعياً بتفكيره العملي مقابل الجانب الرومانسي لشخصية نور، فمثلاً في إحدى رسائل مراد نصحه أن يتجه للتأكيد على ملكية أراضي الشيخ جراح، بصفتها قضية أهم وأكثر إلحاحاً من البحث في تاريخ مريم المجدلية، بمعنى أنَّ الأولوية في مواجهة الاحتلال بالطرق القانونية (قضية الشيخ جراح مثلاً) بدلاً من محاولات تفكيك السردية التاريخية بمنهج علمي وتاريخي، خاصة أن إسرائيل باتت تستمد قوتها وشرعيتها من خلال الدعم الدولي السياسي والعسكري، ولم تعد تستند إلى البعد التاريخي كما كان الحال في بدايات الصهيونية.
وبطل الرواية نور، ليس مناضلاً بالمعنى التقليدي، فهو لا ينتمي لفصيل مقاوم، ولا يحمل سلاحاً، ولا يلقي الحجارة.. لكنه يواجه الاحتلال معرفياً، من خلال وجوده كإنسان، ومن خلال بقائه فوق أرضه، ومن خلال تفكيكه الرواية الصهيونية، وتثبيت الرواية الفلسطينية ليس بالادعاء والشعارات، بل بالحقائق التاريخية وبالمنطق الإنساني، ومنطق قيم الحق والعدالة.
تظهر ثيمة الأنثى في الرواية: الوطن، النساء، الأم، وهذا ربما بسبب خلفيته اليسارية وانحيازه للمرأة. وثيمة الثنائيات المتناقضة: أور ونور، سماء وإيليانا، القناع والقناعات، نور ومراد (ضميره). ويطرح باسم العديد من الأسئلة: هل نكبتنا بسبب المشروع الصهيوني أم بسبب التخاذل العربي أم بسبب التخلف الاجتماعي؟ هل هي فعل ماض أم فعل مستمر؟
الرواية جميلة وشيّقة، وقد طوّع باسم اللغة ودمجها بالعواطف بأسلوب أدبي رشيق، وصف الأماكن بدقة، مستخدماً استعارات جميلة، وقد تجاوز الصورة النمطية عن الفلسطيني، وأبرز الوجه الإنساني للفلسطيني بضعفه وقوته وأحلامه وواقعيته، والكاتب واسع الاطلاع وعميق الثقافة، وذو خيال واسع ومحلّق بل وجامح.. وهو تنويري بالمناسبة، وقد تمكن من مواكبة الخارج رغم سجنه تقنياً ومعرفياً، فلم يكن معزولاً عن الواقع.
رمزية مريم المجدلية بتأكيده على أن علاقة المسيح معها كانت علاقة روحية غنوصية باعتبارهما وجهَين لحقيقة واحدة تجمع بين الذكر والأنثى، وأيضاً تثبيت فلسطينية المجدلية، بعد أن تمكن الغرب من سلب هويتها، أو إنكارها وتجاهلها، فمثلاً في رواية دان براون ستعيش المجدلية في أوروبا، وهناك يمتد نسلها، ويكتسب الصفات الأوروبية أو الغربية.
أراد القول: إنه يمكن سجن الجسد لكن لا يمكن سجن الفكر والروح، وإن أرض فلسطين رحم لكل الديانات، وتستوعب الجميع.